الفساد والمفسدون، عبارتان نرددهما كلما تطرقنا اليوم لفترة الرئيس المخلوع الراحل عبد العزيز بوتفليقة؛ دون أن نتوقف ونسأل: هل جاء بوتفليقة بالفساد، أم أن هذا الأخير ولد ونما وترعرع في كنف حكمه؟.
خصوصا وأن البدايات الأولى للفساد لا تختلف زمنيا عن البدايات الأولى لحكم بوتفليقة. بل وقد يترأى للناظر أن بوتفليقة جاء إلى الحكم وفي حقيبته مشروع فساد..!
عندما قدم بوتفليقة نفسه للجزائريين عام 1999 في ثوب المرشح المنقذ معيبا على السلطة في الجزائر أنها لم تنجح في إقحام “رجال دولة” في تسيير أمور الجزائريين، وبخاصة في الحكومة، انتظر الجزائريون رجال الدولة.
لكن تشكيلة أول حكومة لبوتفليقة فاجأت الجميع حتي وصفها رئيس مجلس الأمة وقتذاك المرحوم بشير بومعزة بأنها “تحوي 14 وزيرا أخلاقهم مش ولا بد”..!
فقد اكتشف الشارع الجزائري وكأن الرئيس أنشأ “عصابة” للسطو على أموال وثروات الجزائريين.
بل أن كل ما سيذكره الناس في عهد “العزة والكرامة” هو سريان الفساد بشكل غير مسبوق في أوصال الدولة والمجتمع، وارتباط اسم الرئيس بأسماء حفنة من الفاسدين وعصابة من الأشرار جعلوا الدولة تعيش أسوأ مرحلة في تاريخها. والمؤشرات في هذا المجال كثيرة.
ماليا شهدت العهدة الأولى للرئيس بوتفليقة (1999-2004) أكبر فضيحة مصرفية بإعلان إفلاس “بنك الخليفة” وخسائر للدولة وللمدخرين. وقدرت الجهات القضائية قيمة ودائع الهيئات الرسمية والشركات التي وصل عددها 11 شركة بما يزيد عن394 مليار دولار.
شهدت بداية العهدة الرابعة مؤشرات بداية انهيار مفهوم الدولة. حيث بدأ المواطن يتكلم ولو باقتضاب وبرمزية وعدم التصريح عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي عن “لصوص الدولة” وعن المال الفاسد الذي نخر أركانها.
المحاولة الوحيدة لإيقاف النزيف هي تلك التي قام بها الوزير الأول عبد المجيد تبون، الذي أبان أيامها عن مشروعه الطموح: “فصل المال عن السياسة”، للتقليل من النفوذ الكبير وشبكة المصالح الواسعة التي أنشأها رجال الأعمال بقيادة علي حداد في عهد الوزير الأول عبد المالك سلال. الأمر الذي تسبب في إقالته بعد 83 يوما فقط من تعيينه..
تحدث عن أموال تختلس وتهرب إلى الخارج لشراء عقارات ومحلات تجارية لا يحلم أثرياء أوروبا باقتنائها. وكان مصير من بلغ عن الفساد السجون أو المتابعات القضائية أو الفصل من العمل.
لكن هذا لم يمنع رئيس الفدرالية الأوروبية للجمعيات الجزائرية كمال كشيدة، من التصريح سنة 2013 لمصادر إعلامية، بأن المعلومات الرسمية المتوفرة لديه تؤكد على أن الجزائريين قد تمكنوا من اقتناء 3500 مسكن في إسبانيا بين شقة وفيلا، بأسعار تتراوح من 35 ألف إلى 250 و300 ألف أورو..
مستغلين الأزمة التي مرت بها إسبانيا وأدت إلى انهيار أسعار العقار. وقال إن أغلب الأشخاص الذين تمكنوا من اقتناء فيلات “5 نجوم” بها مسابح وكافة المرافق الأخرى التي تضمن عيشة الرفاهية هم أبناء وزراء وكبار المسؤولين.
وعلق بعضهم على منصات التواصل الاجتماع بالقول: لو عمد كل جزائري اشترى عقارا بأوروبا إلى رفع العلم الجزائري فوقه، لرفرفت الأعلام الوطنية في كل أنحاء القارة العجوز..!
الفساد الحكومي تجلى حين ظهرت أسماء بعض المسؤولين والوزراء، في فضيحة “بنما بيبرز” Panama Papers التي فجرتها هيئة دولية للصحافيين الاستقصائيين، وتتعلق بإنشاء شركات وهمية لإجراء معاملات مالية ضخمة بطرق مشبوهة.
ولم تثر هذه القضية أي رد فعل وطني، ولم تفتح تحقيقات قضائية فيما ورد من معلومات، في حين قامت جل الدول بفتح تحقيقات فيما يخصها للتأكد مما ورد في وثائق بنما بيبرز.
النتيجة من كل هذا تردي سمعة الجزائر في مجال مكافحة الفساد، وتدحرج ترتيبها على مؤشر الفساد العالمي الذي تصدره منظمة شفافية دولية، إلى المركز 112 عالميا (من أصل 180 دولة)، بعد أن كانت في المرتبة 88 عام 2015.
المحاولة الوحيدة لإيقاف النزيف هي تلك التي قام بها الوزير الأول عبد المجيد تبون، الذي أبان أيامها عن مشروعه الطموح: “فصل المال عن السياسة”، للتقليل من النفوذ الكبير وشبكة المصالح الواسعة التي أنشأها رجال الأعمال بقيادة علي حداد في عهد الوزير الأول عبد المالك سلال.
الأمر الذي تسبب في إقالته بعد 83 يوما فقط من تعيينه على رأس الحكومة. وتم تعويضه برجل المهمات القذرة كما يسمى أحمد أويحيى مدير ديوان الرئاسة والرجل الذي تقلد منصب رئيس الوزراء 5 مرات من قبل.
اقتصاديا وتنمويا طفت إلى السطح منذ عام 2009 قضية سوناطراك التي عصفت بوزير الطاقة والمناجم شكيب خليل في 2010 بعد 10 سنوات أمضاها في هذا المنصب.
وفي نفس السنة تم التحقيق مع مسؤولين كبار في قضية فساد تتعلق بمشروع الطريق السيار شرق غرب، أو “مشروع القرن” كما أسمته الصحافة.
حزبيا سحب حبل الفساد الكثير من الأسماء المرتبطة بمراكز المسؤولية. من ذلك قضية سيناتور حزب التجمع الوطني الديمقراطي مليك بوجوهر الذي تورط في فضيحة رشوة. ولحفظ ماء الوجه صدر أمر بإقصائه من الحزب.
كما شهد حزب جبهة التحرير الوطني هو الآخر فضيحة مدوية بعد ضبط عدد من أعضاء مكتبه السياسي في قضايا متاجرة بالقوائم الانتخابية. كما تورط ابن الأمين العام للحزب في ذات المتاجرة التي جرته لاحقا إلى المحاكمة والسجن.
قضائيا وأمنيا شكلت قضية ضبط سبعة قناطير من الكوكايين، والتي صارت تعرف بقضية “البوشي”، حلقة جديدة من حلقات الفساد الكبير الذي نخر أجهزة الدولة وضرب مصداقية السلطة داخليا وخارجيا.
فقد جرت القضية أسماء مرتبطة بشخصيات زاولت مناصب مسؤولية عليا. كما فضحت جنرالات في الجيش وقضاة تورطوا في تسهيل معاملات عقارية بشكل غير قانوني.
مما جعلها تتحول إلى قضية دولة طالما ورطت أجهزة في الفساد كان يفترض فيها محاربة الفساد.
منح مئات الملايير كقروض للفلاحين، إلى أن بلغت قيمة القروض لدى وكالة واحدة في الجنوب الشرقي أكثر من 1000 مليار. ثم قررت الحكومة مسح ديون الفلاحين، وألغيت كل الديون التي تحملتها الدولة على عاتقها. بعدها تقرر منع الصندوق من العمل كبنك؛ ثم تقرر غلقه بالكامل، فهل كل هذا مجرد صدفة؟.
والنتيجة من كل هذا تردي سمعة الجزائر في مجال مكافحة الفساد، وتدحرج ترتيبها على مؤشر الفساد العالمي الذي تصدره منظمة شفافية دولية، إلى المركز 112 عالميا (من أصل 180 دولة)، بعد أن كانت في المرتبة 88 عام 2015.
أما عربيا فقد حلت في المركز العاشر، ومغاربيا في المركز الثالث بعد تونس والمغرب.
وهو ترتيب يناقض تماما خطاب السلطة الذي يتحدث عن وجود إرادة سياسية للحد من ظاهرة الفساد، وتطور آليات مكافحته عبر الهيئات والقوانين المستحدثة في هذا الشأن.
ولا أدل على ذلك من عدد قضايا الفساد، التي جرى التحقيق بشأنها على مستوى المصالح الأمنية والعدالة تحت ضغط مطالب الحراك الشعبي والتي أفضت إلى تأكيد تورط وزراء ومسؤولين كبار في قضايا فساد.
حيث بلغت في ظرف الأشهر الثلاثة الأولى من عمر الحراك الشعبي حوالي 50 قضية، لم يلبث هذا الرقم أن ارتفع إلى مستوى جعل خبراء في القانون يقولون أنه فوق قدرة العدالة الجزائرية، بسبب العدد المحدود من القضاة المحققين المختصين من جهة، وضخامة ملفات الفساد.
فقد تم الزج برؤوس الفساد من الحيتان الكبيرة في السجن. بل ولم تلبث شهية الحراك الشعبي أن تفتحت على الرأس الكبير. حيث طالب المحتجون بإخضاع الرئيس بوتفليقة للمحاكمة.
ورفعوا شعار: “ما زال بوتفليقة!” وشعار: “الشعب يريد استرداد أمواله المنهوبة ومحاكمة العصابة وكبيرها علنا”. اقتناعا منهم أن الفساد على ما يبدو لم يولد ويترعرع في عهد بوتفليقة، بل جاء معه..!
لا يحتاج الباحث إلى كبير عناء ليجد آثار قرارات الرئيس بوتفليقة المدمرة لمقدرات البلد، والتي عادت بالنفع على بطانته والخسارة الفادحة على خزينة الدولة.
من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ملف مسح ديون الفلاحين، الذي يكشف عن مدى استهتار الرئيس المخلوع بالمال العام.
فحينما جاء بوتفليقة إلى الحكم حولت الحكومة في نهاية التسعينيات الصندوق الوطني للتعاون الفلاحي إلى بنك يمكنه إقراض الأموال للفلاحين.
حيث بدأ الصندوق في منح مئات الملايير كقروض للفلاحين، إلى أن بلغت قيمة القروض لدى وكالة واحدة في الجنوب الشرقي أكثر من 1000 مليار.
ثم قررت الحكومة مسح ديون الفلاحين، وألغيت كل الديون التي تحملتها الدولة على عاتقها.
بعدها تقرر منع الصندوق من العمل كبنك؛ ثم تقرر غلقه بالكامل، فهل كل هذا مجرد صدفة؟.
تتحدد مسؤولية بوتفليقة في كون قرار مسح ديون الفلاحين الذي تم الترويج له على أنه قرار لصالح الفلاحين، قد خدم بصورة خاصة فئة محددة من كبار أصحاب القروض من بينهم وزراء سابقين ورجال أعمال معروفين.
فقد كانت جهات مقربة من الرئيس على علم قبل نحو شهرين على الأقل بقرار مسح الديون الذي أعلن في خطاب رسمي للرئيس بوتفليقة في ندوة التجديد الفلاحي والريفي المنعقدة بولاية بسكرة في 28 فبراير2009.
هذا التسريب الخطير أدى لتسريع عملية حصول عدد من الأشخاص على قروض فلاحية كبيرة تم مسحها لاحقا.
وهذا التسريب الخطير أدى لتسريع عملية حصول عدد من الأشخاص على قروض فلاحية كبيرة تم مسحها لاحقا.
ولو تم فتح تحقيق جدي لكشف حجم القروض الكبيرة التي منحت في الشهرين اللذين سبقا الإعلان عن مسح الديون، والمستفيدين منها، خصوصا أن كثير منهم لا يحوز على بطاقة فلاح التي لا تؤهل من لا يحوزها للحصول على قرض، ليتأكد الجميع أن مشروع الفساد جسده الرئيس ومن حوله عن سبق إصرار وترصد.
ولعل ما يؤكد رعاية نظام بوتفليقة للفساد هو سماحه بتدخل المال الفاسد في العملية السياسية خصوصا في المرحلة ما بين 2010 و2019 وبشكل مفضوح.
تجلى ذلك من خلال التدخل للتأثير على قوائم الأحزاب وعلى الانتخابات لضمان نجاح رجال محسوبين على البطانة المالية الفاسدة.
فقد قدم رجال المال الفاسد مرشحيهم في مختلف الأحزاب وحتى في القوائم الحرة، ولم يكن لدى الشعب من سلاح يواجه به هذا السطو المفضوح على الشرعية سوى مقاطعة الانتخابات؛ وكانت تأثيرات ذلك محدودة.
ألم تمنع الحكومة الضريبة على الثروة في تواطؤ صارخ مع رجال المال؟ وفي مقابل ذلك طبقت إجراءات التقشف بعد تراجع أسعار النفط على الطبقة الشغيلة؟.
تغلغل المال الفاسد لم يتوقف عند حد السطو على القوائم الانتخابية وضمان عهدة نيابية وحصانة لبعض الفاسدين. بل وصل إلى تواطؤ خطير جمع الحكومة والسلطة التشريعية مع رجال المال لإعداد قوانين وتنظيمات على حساب المواطن البسيط.
ألم تمنع الحكومة الضريبة على الثروة في تواطؤ صارخ مع رجال المال؟ وفي مقابل ذلك طبقت إجراءات التقشف بعد تراجع أسعار النفط على الطبقة الشغيلة؟.
ألم تفشل الحكومة في حل معضلة التهرب الضريبي الذي يمارسه رجال الأعمال، وتفتخر في مقابل ذلك بأنها تحصل على جباية عادية أهمها اقتطاعات جبائية من الموظفين والعمال؟.
في مقابل ذلك ألم تتخلى الحكومة عن مؤسسات الشعب بأبخس الأثمان لصالح رجال الأعمال؛ بعضها تم التنازل عنه لفائدة أجانب مثل مؤسسة الزجاج بوهران ومركب الحجار بعنابة؟.
وإمعانا في ترسيم تزاوج وتواطؤ المال الفاسد مع السياسة فقد تم تكييف القانون بما يخدم هذا التواطؤ.
فقانون الاستثمار سهل الحصول على المال دون ضمانات من خلال قروض بنكية خيالية استفادت منها قلة من رجال المال المتحلقين حول العصابة السياسية.
وبالموازاة مع ذلك تم تسهيل عملية استيلاء رجال المال على العقار الصناعي والعقار الفلاحي.
لهذا لا غرابة أن نجد رجال المال الفاسد يتحصلون على عقود امتياز لمئات الهكتارات من الأراضي الفلاحية بالمنيعة والجلفة وأدرار ليقوموا بكرائها للفلاحين الحقيقيين في شكل جديد من أشكال الخماسة استدعت انتفاضة الشعب.
هل يعقل أن المختلس لأكبر المبالغ مهما كانت قيمتها يواجه عقوبة أقصاها 10 سنوات، في حين تعتمد الصين التي تحركت ضد الفساد عقوبة الإعدام؟.
أما قانون الصفقات العمومية فقد تم تفصيل دفاتر شروطه على مقاس رجال المال المحظوظين. والنتيجة ذهاب مئات الملايير في مهب الريح.
ولعل محاكمات رجال المال الفاسد والساسة المتواطئين معهم تكون قد كشفت عن حجم النهب الذي تعرض له المال العام، وفي مقابله سوء انجاز المشاريع، كمشروع الطريق السيار شرق غرب على سبيل المثال لا الحصر.
ولم يكن كل هذا ليحدث لو لم يتم تكييف قانون محاربة الفساد ليخدم أرباب المال الفاسد. فقد صار هذا القانون ضمانة أكثر منه تخويفا للمتحايلين.
فهل يعقل أن المختلس لأكبر المبالغ مهما كانت قيمتها يواجه عقوبة أقصاها 10 سنوات، في حين تعتمد الصين التي تحركت ضد الفساد عقوبة الإعدام؟.
وقد أدرك الشعب هذا التواطؤ القائم بين منظومة الحكم ومنظومة الفساد، لهذا لم يتردد في رفع الشعار: “العصابة تقرر والبرلمان يمرر”.
كل هذا دفع الحراك الشعبي لأن يجعل أولى أولوياته بعد إسقاط العهدة الخامسة، هو محاسبة أرباب المال الفاسد الداعمين لها.
وكانت الشعارات رسائل واضحة ومباشرة: “لا معنى للحرية في وطن مجرموه أحرار”.. “لا حوار لا انتخابات حتى ترحل المنظومة الفاسدة”.. “كليتو البلاد يا السراقين”.. “سراقين سراقين ويقولوا وطنيين”.. “قولوا للسراقين والله مانا حابسين”.
كما توجهت الشعارات للعدالة لكي تتحرك: “أخرجوا الملفات وافتحوا التحقيقات وأوقفوا العصابات”.. “توقيف العصابات، تشميع العقارات وحجز المسروقات”.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.