يكمن السر في الحد من تفشي إنتشار الوباء في إحترام المنطق الرياضي، فالعدد الأكبر هو الجدير بالدراسة والإهتمام حتى ولو كان صامتا.. كيف ذلك؟
بينت الدراسات الوبائية عبر العالم أنه يمكن تقسيم ضحايا فيروس كورونا المستجد (COV 19) إلى ثلاثة فئات أساسية:
الفئة الأولى: وهي فئة أصحاب الأعراض الخفيفة، أو ما يصطلح عليهم فئة حاملي الفيروس والتي تمثل نسبة 80 في المائة من عدد المصابين (الفئة الصامتة).
الفئة الثانية: وهي فئة أصحاب الأعراض المتوسطة، والتي يأثر فيها الفيروس بدرجة أكبر من الفئة الأولى وتحتاج لرعاية طبية وتمثل نسبة 15 في المائة من عدد المصابين.
الفئة الثالثة: وهي فئة أصحاب الأعراض الخطيرة، وتشمل غالبا كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة وغيرها من الفئات الضعيفة، والتي تحتاج لرعاية طبية كبيرة تصل إلى حد الإنعاش الطبي وتمثل 5 في المائة من عدد المصابين.
إنطلاقا من هذا التقسيم برزت التجارب العالمية في مكافحة الوباء. ويمكن الوقوف هنا على أهم التجارب الرائدة:
أولا: التجربة الصينية
و هي مركز ظهور الوباء وبداية إنتشاره. فمع بداية ظهور الوباء شهر ديسمبر 2019 حاولت الصين في ظل غياب أي معلومة لكيفية عمل وإنتشار الفيروس التصدي للوباء بإستهداف الحالات الخطيرة (وهي حالات الفئة الأولى والفئة الثانية).
و لكن مع مرور الوقت تفاقم الوباء ليصل إلى 400 حالة ظاهرة (الفئة الأولى والفئة الثانية ) بإقليم ووهان. مما إضطر الحكومة الصينية إلى فرض الحجر الصحي الكلي على الإقليم.
حيث صرح الناطق الرسمي للحكومة الصينية أن الصين بحاجة لفهم كيفية عمل ونشاط الفيروس، ومع ظهور الدراسات الأولى لكيفية نشاط وتفشي الوباء فهمت الصين أن هناك حلقة مفقودة في سياستها لمكافحة الوباء وهي فئة 80 في المائة (الفئة الصامته). وأيقنت أن إستراتيجية مكافحة الوباء تبنى على المنطق الرياضي (قانون العدد الأكبر).. فغيّرت إستراتيجيتها وفرضت الحجر الصحي التام في المنازل وأوقفت العمل وأوقفت المصانع وعطلت الدراسة، كل هذا لتتدارك التأخر في عزل فئة 80 في المائة (الفئة الصامتة). و نجحت في التحكم في إنتشار الوباء بعد ثلاثة أسابيع من دخول إستراتيجية إستهداف فئة 80 في المائة (الفئة الصامتة). بحصيلة فاقت 3000 قتيل.
ثانيا: التجربة الإيطالية
بعد دخول الوباء إلى إيطاليا لم يكن رد الحكومة الإيطالية سريعا وحازما رغم تحذيرات منظمة الصحة العالمية.
فقد ركزت جهودها على المصابين بالفيروس ظاهريا (الفئة الأولى والفئة الثانية) أي فئة 20 في المائة، في تحدى واضح للمنطق الرياضي (قانون العدد الكبير).
وهي أعداد كانت تبدوا بسيطة ويمكن التحكم فيها في ظل غياب أي معلومة عن الفئة الثالثة (الفئة الصامتة).. و مع مرور الوقت تفاقمت الوضعية وتدهورت.
فالحلقة المفقودة (الفئة الصامتة) غير مدرجة في استراتيجية مكافحة الوباء.. ومع خروج الأمر تماما عن السيطرة لجأت إيطاليا للحجر الصحي التام، إستنادا إلى التجربة الصينية أملا في التحكم في الفئة الثالثة (الفئة الصامتة) ولكن بعد فوات الأوان، لأن الحلقة المفقودة إنكسرت ولم يعد بالإمكان التحكم في الفئة الصامتة (الفئة الثالثة فئة 80 في المائة).. والنتيجة ضحايا بعشرات الآلاف وحاملي فيروس غير محصى.
ثالثا: تجربة كوريا الجنوبية
وهي تجربة مبنية على نتائج التجربة الصينية والتجربة الإيطالية، إذ أدركت كوريا الجنوبية أن الحلقة المفقودة لمكافحة الوباء هي الفئة الصامتة (الفئة الثالثة فئة 80 في المائة)، فغيرت إستراتجيتها تماما بإدخال نظرية التكلفة البديلة، أي إستثمار الخسائر الإقتصادية المتوقعة في تمويل استراتيجية مكافحة الوباء دون توقيف النشاط الإقتصادي.
فركزت على الحلقة المفقودة (الفئة الصامتة) ودعمت الفحص التلقائي المكثف لتحييد الفئة الصامتة ( الفئة الثالثة فئة 80 في المائة).. فتحييد فرد من الفئة الصامته هو بمثابة علاج لأربعة أفراد من الفئات المتبقية، وهو ما مكنها من إجراء 15 ألف فحص يومي..
وبعد مرور ثلاثة أسابيع إنخفض عدد المصابين بعشرة مرات (من 900 حالة يوميا إلى أقل من 90 حالة يوميا).
ويمكن الإشارة هنا أن التجربة الكورية نجحت لتوفر عدة عوامل مساعدة، منها الحوكمة الإلكترونية والصرامة في تبادل معلومات المرضى وحاملي الفيروس ونشرها، فالتجربة الكورية احترمت المنطق الرياضي (قانون العدد الأكبر).
ومنه فإن استراتيجيات الدول المتبقية يمكن إسقاطها على التجارب الثلاثة السابقة الذكر، فالتجربة الألمانية تسير في نسق التجربة الكورية، والتجارب الفرنسية والإسبانية والأمريكية تسير في نسق التجربة الإيطالية، أما حالة الجزائر فيمكن تداركها وإخراجها من نسق السير على خطى التجربة الإيطالية إلى نسق التجربة الكورية ولو بشكل معدل بعزل كل الحالات المشبوهة والتي يحتمل إنتمائها للفئة الثالثة عزلا تاما، في انتظار الرفع من إمكانيات الكشف المبكر التلقائي.
أ.د.خالد رواسكي
أستاذ جامعي و باحث بالمدرسة الوطنية العليا للإحصاء والإقتصاد التطبيقي – الجزائر -..
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.