زاد دي زاد - الخبر مقدس والتعليق حر

ملاحظة: يمكنك استعمال الماركداون في محتوى مقالك.

شروط إرسال مقال:

– النشر في “زاد دي زاد” مجّاني
– أن يكون المقال مِلكا لصاحبه وليس منقولا.
– أن يكون بعيدا عن الشتم والقذف وتصفية الحسابات والطائفية والتحريض.
– الأولوية في النشر للمقالات غير المنشورة سابقا في مواقع أو منصات أخرى.
– الموقع ليس ملزما بنشر كل المقالات التي تصله وليس ملزما بتقديم تبرير على ذلك.

في المدينة المُحرّمة…

فيسبوك القراءة من المصدر
في المدينة المُحرّمة… ح.م

عميمور - بومدين - ماو تسي تونغ

كان من حسن حظي أن حظيتُ بمرافقة الرئيس الراحل هواري بومدين في زيارته التاريخية للصين، البلد الذي كان بالنسبة لي لُغزًا، وخاصة ما يتعلق بالثورة الثقافية وبشعاراتها، التي ترجمت لنا بالعربية عن الفرنسية فضاع لبّ المعنى، وإلاّ فكيف يمكن أن أشرح شعارًا سياسيًا يقول: "تتساقط الأزهار فماذا يفعل الإنسان"؟!.

ولم تكن زيارة “ماو تسي تونغ” بالنسبة لي حدثًا عاديًا، فهو لم يكن يَستقبِلُ إلاّ أعلى المستويات من القادة، وعادة لا يوضع الوقت المحدد للاستقبال في البرامج الرسمية، لكن يمكن تخيل الموعد في يوم لم تخصص له نشاطات هامة، أو يومٍ ليست فيه نشاطات على الإطلاق، ويأتي الأمر بالاستعداد دائمًا في اللحظات الأخيرة.

وفي أمسية باردة من فبراير شباط 1974 تتابعت سياراتنا خلف سيارة الرئيس بومدين، واتجه الموكب نحو معقل “ماو” في المدينة المحرمة والشمس تميل نحو الغروب، وربما كان هذا جزءًا من عملية الإعداد النفسي للضيوف، وذلك بعد أن اجتزنا ساحة “تين إين منه”، التي تصدرتها صورة ضخمة للزعيم الصيني، مازالت هناك إلى يومنا هذا.

ودخلت السيارة في أزقة خافتة الإضاءة يلفها سكون صاخب، بحيث شعرت وكأنني أخرج من زمن معين لأدخل زمنا آخر، أو كأنني أغوص في قلب التاريخ بمركبة الزمن، وزاد من رهبة الموقف سقوط رذاذ غطى السطح الخارجي لنوافذ السيارة، وتكامل معه بخار زفيرنا الذي تكثف على السطح الداخلي للنوافذ، وأحسست للحظات أنني معصوب العينين.

وتوقفت السيارة أمام مدخل المنزل، بعد أن كانت السيارة التي تسبقها، بروتوكوليا، قد قامت بنفس الشيء، ونزلتُ من السيارة لأجد نفسي في مدخل منزل دافئ خافت الأضواء يلفه الهدوء ويتشبع هواؤه برائحة خاصة هي مزيج من عطور الشرق وبخوره، وكان شعوري هو أنني أدخل معبدًا لا يتحدث الناس فيه إلاّ بلغة العيون.

واتجهنا في صف واحد، الواحد بعد الآخر حسب المرتبة البروتوكولية، نحو مكتبة الزعيم مجتازين ممرًا طويلاً، ثم دخلنا إلى مكتبه من باب صغير، وكانت أمامي ثوان معدودة لألقي نظرة سريعة على صومعة واحد من عمالقة القرن العشرين، وبدت لي غرفة متواضعة قد يقل طولها عن 12 مترًا، وربما كان عرضها في حدود ستة أمتار، وارتفعت على الجدران المواجهة لبابي الدخول رفوف على شكل خزائن بدون أبواب، اصطفت عليها عشرات الملفات الكرتونية، بما يذكر بمصالح الأرشيف، بينما اصطف على جانبي بابي الدخول عشرات المصورين الصينيين بأضوائهم الكاشفة، وعن بعدٍ لا يُسْمح لهم بتجاوزه (وكان التصوير مقصورًا على المصورين الصينيين).

وفي أحضان خزائن الكتب وبالقرب منها، كان هناك عدد من المقاعد الفردية الوثيرة، صُفت على شكل هلال مفتوح، وأمام المقعد الذي يواجه الباب مباشرة وجدت نفسي أمام “ماو تسي تونغ” واقفًا بشحمه ولحمه وهو يمد يده لمصافحتي، والرئيس الراحل يقدمني له قائلاً “الدكتور فلان” (وكان الرئيس الراحل يناديني عادة بالاسم المُجرّد، ولكنه يستعمل دائما اللقب عند تقديمي لضيف أو لمضيف أجنبي، وهي لفتة أراها رائعة).

صافحت “ماو” وأنا أحدّق في وجهه بمزيد من الدهشة والرهبة والفضول والإعجاب، لدرجة أنني نسيت إغلاق “الجاكيت”، وهو ما عكسته الصورة المرفقة إلى حد كبير.

صافحت “ماو” وأنا أحدّق في وجهه بمزيد من الدهشة والرهبة والفضول والإعجاب، لدرجة أنني نسيت إغلاق “الجاكيت”، وهو ما عكسته الصورة المرفقة إلى حد كبير.

كنت أتوقع، ربما بتأثير ما شاهدته له من صور عملاقة وتماثيل ضخمة، وبتأثير ما قرأته من صفحات وصفحات تتحدث عن مسيرته الكبرى وعن حياته الحافلة، أنني سأجد أمامي عملاقًا فارع الطول ضخم الجثة ناري النظرات حديدي القبضة زئيري الصوت، لكنني فوجئت بطوله العادي الذي يقترب من طولي (وأنا أقصر من الرئيس بو مدين) مع امتلاء في الجسم خاصة على مستوى البطن، وكانت نظرته هادئة وديعة، ويده تهز يدي في تؤدة ورفق، وهو يتمتم هامسًا بكلمات سمعتها بصعوبة ولم أفهم منها كلمة واحدة، ولعلها كانت تعني شيئًا مثل “عسّلامة… مرحبًا… واش راكم؟”.

وانتابني، للحظات، شعور بأنني أمام رجل طيب تجاوز سن التقاعد، ولم أستطع الوصول إلى استنتاج نهائي، هل ما زال يقود أم أصبح يُقاد.

ويموتُ “ماو” بعد سنوات، وتشهد الصين زلزالاً هادئًا، الفرق بينه وبين زلزال الاتحاد السوفيتي هو الفرق بين هذه الأمة الآسيوية التي تُجسد حضارة ضاربة في أعماق التاريخ، تجمعها لغة قومية واحدة، بغض النظر عن اختلافات لغوية جهوية لا يزاحم الفرع فيها الأصل أو يتجاهله، وتلك الأمة الآسيوية الأوربية التي اختلط حابلها بنابلها، واختلطت حدودها بحدود إمبراطورتيها، فجمعت العديد من القوميات والأديان والمذاهب بقوة الحديد والنار، وعندما فشل المشروع الاجتماعي انهار كل شيء، وكاد القوم يرفعون على علمهم شعار “ارحموا عزيز قوم.. “.

ويحاول المراقبون الغربيون التعامل مع أحداث الصين بنفس مقياس الاتحاد السوفيتي، وهنا تبرز أهمية الارتباط بالمفهوم الحضاري للأمة، فقد فشلت كل محاولات الاستيعاب، ورغم كل المتغيرات والضغوط و”الشانتاج” فقد التزم الصينيون بأسلوب في التعامل ينطلق من المعطيات الوطنية، ولا يضحي بمصالح الأمة، ولا يتجاهل ثوابتها، ولا يدير الظهر لمعالم سيادتها القومية.

وهكذا بقيت الصين صينًا، وذهب الاتحاد السوفيتي إلى الأبد.

وكان احتفال “بيجين” مؤخرًا بعيد ميلاد “ماو” رسالة تقول للعالم أجمع أن الصين تتمسك بكل تاريخها وتعتز به، من كونفوشيوس إلى ماوتسي تونغ (الذي أصبح اسمه ينطق “ماوزيدونغ”) وبأنها تفهم جيدًا الفرق بين الاستراتيجية والتاكتيك، وبين ما يقال على الملأ، وما يُحتفظ به للرفاق، وما يجب أن يُقبر في الصدور، وبأن تصفية الحساب مع أشخاص لا تعني التخلص من المبادئ النبيلة والاختيارات الكبرى التي ارتبطت بأسمائهم، وكانت في واقع الأمر تعبيرًا عن حيوية الأمة كلها وعن عبقريتها، وبالتالي عن مكانتها في التاريخ.

ولم يسمع الصينيون من يعترض على الاحتفال بالزعيم الصيني، بحجة إنه أخطأ في هذا أو في ذاك، بل لعل الصينيين لم يسمحوا لأحد بالاعتراض، ولسبب بسيط، لأنهم أمة ودولة وحضارة.

هل يمكن أن أطالب بقراءة جديدة للحديث الشريف: “أطلبوا العلم ولو في الصين”.

لم يسمع الصينيون من يعترض على الاحتفال بالزعيم الصيني، بحجة إنه أخطأ في هذا أو في ذاك، بل لعل الصينيين لم يسمحوا لأحد بالاعتراض، ولسبب بسيط، لأنهم أمة ودولة وحضارة.

(من كتاب: أيام مع الرئيس هواري بومدين)

المقالات المنشورة في هذا الركن لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

كن أوّل من يتفاعل

تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.

فضلا.. الرجاء احترام الآداب العامة في الحوار وعدم الخروج عن موضوع النقاش.. شكرا.