زاد دي زاد - الخبر مقدس والتعليق حر

ملاحظة: يمكنك استعمال الماركداون في محتوى مقالك.

شروط إرسال مقال:

– النشر في “زاد دي زاد” مجّاني
– أن يكون المقال مِلكا لصاحبه وليس منقولا.
– أن يكون بعيدا عن الشتم والقذف وتصفية الحسابات والطائفية والتحريض.
– الأولوية في النشر للمقالات غير المنشورة سابقا في مواقع أو منصات أخرى.
– الموقع ليس ملزما بنشر كل المقالات التي تصله وليس ملزما بتقديم تبرير على ذلك.

الإنسان المجروح

الإنسان المجروح ح.م

في الفاتح من نوفمبر 1989 شُيّع كاتب ياسين إلى مثواه الأخير بالعالية، وتحوّلت المقبرة إلى مسرح صاخب تعالت فيه شعارات مندّدة بسياسة النظام، ولأول مرة تقتحم النساء حُرمة المقبرة، ولأول مرة كاد التأبين يٌقرأ باللغة الفرنسية لو لا تدخل عبد الحميد بن الزين، ولأول مرّة يُمنع المسؤولون الحاضرون في الجنازة من إلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الفقيد.

هكذا تحوّل كاتب ياسين إلى “جثة مطوّقة” في مماته بعد أن طوّقه، وهو حيّ، حوارييه. تصريحات كاتب ياسين المدويّة وانفعالاته العنيفة وأمزجته الحادة دفعت الرئيس هواري بومدين ذات يوم إلى القول عنه “من الأفضل لياسين أن يكتب ويصمت، فهو لا يحسن الحديث”.

كان قد غادر الجزائر عشية أحداث أكتوبر، وبعد أيام كتبت جريدة “لوموند” مقالا تتحدث فيه عن الصمت المخجل للمثقفين الفرنسيين إزاء تلك الأحداث، وتحدثت أيضا عن صمت كاتب ياسين الذي لم يكن من عادته الصمت في مثل هذه الظروف السياسية الحرجة. وردّ كاتب ياسين بمقال بعنوان مدوّ “لقد خانوا جبهة التحرير الوطني” قال فيه: “إن الخوف من الإصلاحات كان وراء المجزرة” التي وقعت في أكتوبر..

zoom

لا يحسن الحديث بالفعل، لكنه كان بسيطا في حياته، عفويا في سلوكه، كريما في طبعه. وكان كما يقول الطاهر بن جلون “أقوى كاتب في المغرب العربي، تجاوزت شهرته الحدود المحلية لتبلغ بعدا عالميا، وكان إنسانا شعبيا، أي قريبا من شعبه، يعيش داخل طموحاته ويعبّر من خلال كتاباته، في الشعر والرواية والمسرح، عن تطلعات شعبه العميقة”.

أمضى كاتب ياسين السنة الأخيرة من حياته بفرنسا للعلاج من سرطان الدم، أخرج هناك في إطار الاحتفال بالذكرى المئتين للثورة الفرنسية مسرحية عن روبسبيير بعنوان”Le bourgeois sans culotte”، والتقى فرانسوا ميتران الذي عرض عليه إقامته ليتفرغ للكتابة، وحصل على الجائزة الوطنية الكبرى للآداب التي تمنحها وزارة الثقافة الفرنسية للكتّاب الفرونكوفونيين.

كان قد غادر الجزائر عشية أحداث أكتوبر، وبعد أيام كتبت جريدة “لوموند” مقالا تتحدث فيه عن الصمت المخجل للمثقفين الفرنسيين إزاء تلك الأحداث، وتحدثت أيضا عن صمت كاتب ياسين الذي لم يكن من عادته الصمت في مثل هذه الظروف السياسية الحرجة. وردّ كاتب ياسين بمقال بعنوان مدوّ “لقد خانوا جبهة التحرير الوطني” قال فيه: “إن الخوف من الإصلاحات كان وراء المجزرة” التي وقعت في أكتوبر، ولم يصدّق أن الجيش أطلق النار على المتظاهرين، وكتب يقول: “لقد خانوا جبهة التحرير الوطني… إن الطبقة المغلقة في الحزب الواحد ترفض أيّ تغيير وتعارضه بكل ما تملك من قوة”. وطرح ياسين فكرة خلق حساسيات داخل الحزب الوحيد من أجل بناء جزائر مستقلّة ضحى من أجلها الآلاف من خيرة أبنائها، ويختم ياسين مقاله بالقول: “إن الاستقلال لا معنى له بدون حرية”.

zoom

يقول بن جلوّن: “إن كاتب ياسين لم يعرف في حياته وفي إبداعه ذلك الشرخ الذي يفصل المثقف عن شعبه. كان إنسانا بسيطا، لم يكن يحسن إخفاء مشاعره، أو أن يكيّف مواقفه بحسب الظروف. كان دائما يقول ما يعتقده حتى في أواخر حكم بومدين لما كمّمت الأفواه”.

في هذا المقال ومقال آخر نشر بعد يومين من موت الكاتب بنفس الجريدة بعنوان “الأجداد يزدادون ضراوة” يبدو فيهما ياسين إنسانا مجروحا، غاضبا، ويائسا. هذا الشعور بالجرح والغضب واليأس ورثه ياسين من فظائع حوادث 8 ماي 1945، ومن جنون أمّه، ومن جهله للغته الأم. وقد لاحظ الكاتب المغربي الطاهر بن جلون هذا الجرح الغائر، يقول بن جلوّن: “إن كاتب ياسين لم يعرف في حياته وفي إبداعه ذلك الشرخ الذي يفصل المثقف عن شعبه. كان إنسانا بسيطا، لم يكن يحسن إخفاء مشاعره، أو أن يكيّف مواقفه بحسب الظروف. كان دائما يقول ما يعتقده حتى في أواخر حكم بومدين لما كمّمت الأفواه”.

يتذكر الطاهر بن جلون حادثة في حيدرة في ماي من سنة 1982 وقعت خلالها ملاسنة عنيفة بين كاتب ياسين ووزيرة الثقافة اليونانية ميلينا مركوري، بحضور وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ. دار الحديث حول الأدب والمتوسطية وحول دور اللغة الفرنسية. لم يكن ياسين، كما يقول الطاهر بن جلون، مرتاحا في هذا اللقاء، وانتفض كعادته ممجدا ستالين والشيوعية، وهو ما أثار حفيظة ميلينا ماركوري التي كانت لا تزال تحت صدمة حكم ديكتاتورية العقداء في اليونان. كان ياسين تحت تأثير الخمر، الذي أزال عقدة لسانه، وجعله ينطق بما لا يقال.

في جوان 1989 كان من المفروض أن يلتقي الطاهر بن جلون وكاتب ياسين في برلين في ملتقى حول الكتابة، لكن اللقاء لم يتمّ، كان ياسين في مرحلة متقدمة من المرض، ورحل عن هذه الدنيا في 28 أكتوبر 1989 في مدينة غرونوبل، ورحلت معه فورات غضبه وأوهامه وجراحه، ورحل معه حلمه في كتاب يقول فيه كلّ شيء كما تمنى!

zoom

المقالات المنشورة في هذا الركن لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

كن أوّل من يتفاعل

تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.

فضلا.. الرجاء احترام الآداب العامة في الحوار وعدم الخروج عن موضوع النقاش.. شكرا.