هناك في الجزائر مترجمون، وفيها صحفيون، وفيها أساتذة جامعة، وفيها رؤساء تحرير، وفيها كتّاب.. وفيها عبد العزيز بوباكير يقوم بأدوار هؤلاء جميعا وزيادة.. رغم أنه شخص واحد.. إنه "رجال كُثُرٌ في جسم رجل واحد"، وبوفاته تفقد مهنتنا أحد شيوخها الكبار.
الطفل الذي قادته دروب العلم فدرس في الجزائر وروسيا وتنقّل في دول كثيرة، هذا الطفل كان يبحث عن جزائر بمقدر أحلامه، لقد كان منطقيا فيما يفعله ولكن اتّضح له سريعا أن العقل ليس الطريقة الوحيدة للاقتراب من معنى العالم ومعنى الجزائر تحديدا، فأطلق العنان لقلمه ليكون مجنونا.
بوباكير لم يناطح أقرانه وحسب، بل ناطح من كان يعتقد أنه أحد “الآلهة” في هذا البلد الرائع ذي النظام المريع، ناطح الجنرال خالد نزّار بشحمه ولحمه وجعله عاريا من كل أكاذيبه، معه انتقم القلم من الرصاص بل أنزل به شر هزيمة.
في مقاله الشهير “تداعيات” كان بوباكير قادرا على تمريغ أيٍ كان في الوحل دون أن يتيح لك فرصة مقاضاته، لأنه يكتب بريشة عاقلة الكلمات قاتلة المعاني..
في مساحته تلك استطاع مناطحة الجميع، وتلاعب بالجميع وجعل مقاله مملكة كاملة من الفرح والحزن والسخرية اللاذعة التي تجبرك على اقتناء “الخبر الأسبوعي” من أجلها ومن أجل “عصابته” من الأقلام التي كانت تشاركه ذلك الفضاء.
بوباكير لم يناطح أقرانه وحسب، بل ناطح من كان يعتقد أنه أحد “الآلهة” في هذا البلد الرائع ذي النظام المريع، ناطح الجنرال خالد نزّار بشحمه ولحمه وجعله عاريا من كل أكاذيبه، معه انتقم القلم من الرصاص بل أنزل به شر هزيمة.
بوباكير كان أستاذا جامعيا لامعا، وكان مترجما عظيما متقنا للغات ثلاث، ولعله أحد الجزائريين القليلين الذين أتيح لهم الاطلاع على التراث الروسي ونقله إلى العربية..
فهو الذي كتب روائعه عن الأمير عبد القادر والإمام شامل رحمهما الله، وهو الذي رافق بقلمه المستشرقين الروس فأخرج لنا كتابه عن الجزائر والاستشراق الروسي.
بوباكير كان أيضا رئيس تحرير ناجحا لواحدة من أكبر أسبوعيات البلد، كان شخصا لطيفا للغاية، كان يقدّر الموهبة ويُعجَب بالأقلام الجادة، وكان رفيقا طريفا مضحكا يخيّل لك حين تسمعه يتكلّم أنه ينطق من خلال رؤوس الإبر، فهو يسدّد عددا قليلا من الكلمات لكنها كافية لقتلك ضحكا أو جعلك مسخرة الزمن وأضحوكة الدهر.
بوباكير بالنسبة لجيلنا كان الأب الحامي، كان يمكنك الاختلاف معه في كل شيء إلا أنه لن يغادر مربع الأدب معك حتى تغادره بنفسك..
لو كان للبلد عقل لتم الاحتفاء بالأستاذ بوباكير، فهو مؤسسة ثقافية متكاملة، ولكن لأن البلد هي البلد فلا شيء من ذلك قد تم ولولا المبادرات الشخصية، وآخرها وأجملها لصديقنا نسيم لكحل في تكريمه، لما رأى بوباكير نفسه يوما واقفا يسمع ما يستحقه من إشادة.
كان أستاذا في التعبير وكان قادرا ببساطة على كشف المثقفين المزيفين ثم ممارسة هوايته الجميلة معهم.. سحبهم إلى حيث لا يناطحه أحد.. إلى القلم.. هناك تتلبّسه حالة الأستاذية الجامعية فيعصف بهم ثم يدمغ كلّا منهم بما يستحقه من ألقاب.
لو كان للبلد عقل لتم الاحتفاء بالأستاذ بوباكير، فهو مؤسسة ثقافية متكاملة، ولكن لأن البلد هي البلد فلا شيء من ذلك قد تم ولولا المبادرات الشخصية، وآخرها وأجملها لصديقنا نسيم لكحل في تكريمه، لما رأى بوباكير نفسه يوما واقفا يسمع ما يستحقه من إشادة.
لقد مات بوباكير وآن لمن عدِم الموهبة أن يتمدّد في غيبة الموهوب، وآن للجنرال نزار أن يستريح فقد هُزِم بوباكير بالطريقة الوحيدة التي يمكن أن يهزم بها.. نهاية عمره..
لقد كان ممكنا جدا لمن عرف بوباكير أن يحس بحجم المرارة التي يكتنزها قلبه، فهذا رجل لو ولد في مكان آخر لأقاموا له التماثيل وجعلوه مفخرة الوطن، لكن الدنيا حكمت على بوباكير بأن يولد حيث ولد ويعاني ما عانى ثم لا يستطيع أن يئن أو يتألم لأنه كان ذا خلق عظيم وشهامة بالغة.
هل كان بوباكير ملائكيا؟ لا.. فهل ككل البشر له مدّ وجزر ولكنه كان أستاذا وصحفيا ومترجما وكاتبا ألمعيا بموهبة غير طبيعية..
كان رجلا له من الفضائل الشيء الكثير الكثير الكثير .. الشيء الذي لا يطيقه بشر كثير ولكن بوباكير حمله في جسده النحيل بهدوء وتواضع وبمحبة لا تنتهي لبلده الجزائر.
رحمك الله أستاذنا..
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.