لم يسبق للثقافة أن انحطت مثل هذا الإنحطاط المريع والفضيع بعد أن تحولت إلى مهرجانات غنائية وتظاهرات فلكلورية وكرنفالات لاستنزاف المال العام، وبعد أن قلب المثقفون ظهر المجن وغيروا جلدتهم، والتحقوا بالركب وأصبحوا مستأجرين عند الأوليغارشية التي استطاعت ترويضهم بسياسة العصا والجزرة.
وفي خضم هذا المشهد الموبوء، توارى دور المثقف الحقيقي الذي ينير الحقائق للناس ويثري عالم الأفكار، ويدافع عن المبادئ الإنسانية ويناصر القيم الأخلاقية، ويثير وعي الجماهير حول القضايا الراهنة والمصيرية في اللحظات الفارقة.
واختفى المثقف الذي يستخدم معارفه وعلومه لجعل الناس أكثر إنسانية وأقل وحشية، ويستخدم نشاطه لتسريع تقدم حرية الإنسان وزيادة معرفته أينما كان، ويضع شهرته في خدمة من لا شهرة له كما يقول باسكال بونيفاس.
وغاب عن الأنظار المثقف الذي يربك المستبدين ويفسد حسابات الأقوياء ويفضح مخططات أصحاب النفوذ و الحظوة، غاب من كان جوزيف غوبلز يتحسس مسدسه كلما سمع ذكره.
وبقي أدعياء الثقافة الذين لا يؤمنون بشيء سوى أنفسهم ولا يناصرون شيئا إلا مصالحهم، فهم ينتسبون إلى قضايا ليس لقناعتهم بصحتها بل لأنها في نظرهم تدر ربحا وفيرا وتتناسب مع إيقاع النغمة السائدة.
وبقي الدخلاء الذين يملأون الفضاء ضجيجا بتبجهم الصاخب بأمجاد ثقافتنا، وبتغنيهم المبتذل بانتصارات تاريخنا الغابر وبتشدقهم بشعارات رنانة وكلام معسول في إطار تبعيتهم المطلقة للسلطة.
لم يبق من الثقافة نقيرا ولا قطميرا بعد أن تحول بقايا المثقفين إلى أبواق للسلطة الحاكمة، يعزفون لها السمفونية التي ترتضيها، وتحولوا من الوسيط الذي ينقل رسالة الجمهور إلى السلطة، إلى ساعي بريد ينقل الأوامر من السلطة إلى الجمهور.
فقدت الثقافة ما تبقى من جاذبيتها، بعد أن أصبح أهلها يتعاطون التضليل باستعمال شعارات جذابة مثل الدفاع عن “إرادة الشعب” ومناصرة “حقوق الإنسان” من أجل اللاشرعية، وتكريس الاستبداد، فوقفوا في المكان الخطأ، كما وقف علاء الأسواني ومحمد حسين هيكل وإبراهيم عيسى وعبد الحليم قنديل وعبد الرحمان الأبنودي وجورج إسحاق وعمرو حمزاوي، وأصبحوا “كلاب الحراسة الجدد” للنظام الانقلابي في مصر.
لقد أصبح من الواجب على المرء الاتصاف بكثير من البلادة لكي تستهويه الثقافة في ثوبها الجديد، ولكي يصدق المثقفين الجدد في زمن أصبحت فيه الشجاعة استثناء والنذالة عرف.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.