قرأت قبل أيام خبرا عن تعليمة أرسلتها وزارة الداخلية الجزائرية تطلب فيها من المصالح المختصة إعادة مراجعة قوائم الفائزين في قرعة الحج وتطهيرها من أي اسم ثبت أن صاحبه حج خلال السنوات السبع الأخيرة. اعتقدت في البداية، وبالطريقة التي حرر بها الخبر، أن الأمر يتعلق بقرار جديد يهدف إلى تنظيم عملية الحج وإضفاء نوع من العدالة عليها، لكن بعد بحث خفيف اكتشفت أن السلطات دأبت منذ سنوات على أن تؤكد أن من بين شروط التقدم لقرعة الحج أن يكون سجلّ المرشح خاليا من أي سفرية حج “ارتكبها” خلال السنوات السبع التي تسبق تاريخ تقديم ملفه.
هذا القرار من شأنه، بطبيعة الحال، أن يمنح الذين لم يكتب لهم الحج من قبل فرصة جدية للحصول على تأشيرة لذلك، إضافة إلى أنه يمنع آخرين سبق لهم الحج مرة أو مرات من مزاحمة المستحقين. ولا يخفى على أحد كيف أن ملف الحج تحول إلى واحد من أعقد ملفات الفساد في الجزائر (وفي بلدان أخرى أيضا)، حيث تشكلت حوله “مافيا” لا تقل تأثيرا وتغلغلا عن باقي “المافيات” التي تعج بها البلاد. ولست أفشي سرا هنا عندما أقول إن تأشيرات الحج والسياسات الحكومية المتعاقبة بشأنها ساهمت هي الأخرى في إثراء أناس وفي تمريغ كرامة آخرين في التراب.
الحج يعتبر لدى عامة الجزائريين واجبا شرعيا مقدسا. وأمام معضلة تحديد عدد الحجاج وحصر الموسم مرة واحدة في العام، صار كثير من الناس لا يقتنعون باتباع الإجراءات الإدارية المحددة لذلك، أي التسجيل في البلدية وانتظار ما تفرزه عملية القرعة. ولأن النظام السياسي القائم محتاج لاستمراره إلى الإبقاء على بذور الفساد منتشرة في كل مكان، فقد جعل إلى جانب الإجراء الإداري الواضح لتسيير عملية قرعة الحج نظاما موازيا آخر لا يتردد معظم الراغبين في الحج في سلوكه خاصة عندما تتقطع بهم السبل وعندما يزين لهم الشيطان تلك الصورة النمطية التي تفيد أن المواطن إذا أراد قضاء أية حاجة الأفضل له أن يسلك طريق الفساد الذي أصبح شرا لا بد منه. ولكم أن تلتفتوا يمنة ويسرة لتتأكدوا تماما أن كل الفساد الذي يلوث مصالح المواطنين إنما سببه أن هناك سبيلين لقضاء الحوائج، الطريق الرسمي والقانوني “الصعب” والطريق الموازي المحفوف باليسر والفتاوى الجميلة.
الجميع يعلم من أين يأتي الفساد في ملف الحج، ولا بأس أن أذكر هنا سببا أو اثنين. عدد التأشيرات الممنوحة سنويا محدد سلفا، حيث أن لكل بلد عدد مخصص من الحجاج سنويا. ومثلما أن الجزائريين العاديين يتلهفون في كل عام ويترقبون موعد التسجيل للقرعة وموعد إجرائها، فإن هناك آخرين يسارعون إلى حجز تأشيراتهم في طوابير أخرى تتسرب إليها أعداد كبيرة من هذه التأشيرات. فهناك “كوطة” خاصة من مجموع تأشيرات الحج تخصص سنويا (دون قرعة) لكافة المؤسسات الرسمية بدءا من الرئاسة وانتهاء بأعضاء البرلمان والولاة ورؤساء الدوائر. جزء من هذه التأشيرات يوزع مجانا أو مقابل خدمات معنوية وجزء آخر يباع بمبالغ خيالية أو تشترى به الذمم. ولا ننسى هنا أيضا تلك التأشيرات التي يحصل عليها أصحابها من المصالح القنصلية للسفارة السعودية مباشرة تحت عنوان “تأشيرات المجاملة”، وهذه أيضا ليست طاهرة من الفساد.
لا أدري إن كان هناك من الزملاء الصحفيين من أجرى تحقيقا معمقا حول ظاهرة تأشيرات الحج والفساد الكبير الذي يلف حولها، أو أن هناك من حصل على معلومات دقيقة عن عدد التأشيرات وطرق تقسيمها بين “أهل القرعة” و”أهل الحق المكتسب”. بل قد يكون مفيدا لو أن باحثا أو طالبا أجرى بحثا ميدانيا مستفيضا حول الحجاج الذين حصلوا على تأشيرتهم عن طريق القرعة (كم وقتا استغرقوا للحصول عليها) وأولئك الذين جاءتهم عبر طرق أخرى (ما هي وما هو المقابل)، وربط ذلك بتكون الفساد وانتشار مظاهر النقمة من نظام الحكم.
قرار منع أي حاج من الترشح لحجة أخرى لمدة سبع سنوات هدفه، كما أسلفت، إضفاء نوع من الإنصاف وتوفير حظوظ أكبر للذين لم يحجوا. لكني أعتقد أن الإدارة المختصة ستوفر للجزائريين قدرا أكبر من العدل والإنصاف لو أنها أوقفت نهائيا تخصيص توزيع التأشيرات على أصحاب “الحق المكتسب”، ولا بأس أن تخصص جزءا منها للحالات الخاصة (المرضى وكبار السن أو الذين لم تبتسم لهم القرعة لسنوات طويلة)، شريطة أن يكون ذلك أيضا بطريقة تفوق عملية القرعة شفافية وانضباطا.
أما بخصوص سنوات الحظر السبع، فأنا أسأل الذي اتخذ هذا القرار: لماذا سبعة أعوام وليس ستة أو عشرة مثلا؟ أما إذا أردتم رأيي فسأقول لكم امنعوا أي أحد سبق له الحج من الحصول على تأشيرة أخرى مدى الحياة أو على الأقل حتى يصبح الطلب أقل من العرض أو ربما عندما يأتي وقت يتفق فيه العلماء على أن شعائر الحج يمكن أداؤها في أوقات إضافية أخرى غير تلك المعروفة الآن، فيصبح موسم الحج مواسم والشهر المعلوم أشهرا معلومات. وفي انتظار ذلك علينا أن نفهم أن الحج مكتوب شرعا “لمن استطاع إليه سبيلا”، وأنه ليس هناك ما يفرض على أي أحد أن يحج مرة كل عام أو كل سبعة أعوام.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.