إلى غاية عام 2019 كانت العلاقة بين السلطات في الجزائر وحركة النهضة، ممثلة في زعيمها راشد الغنوشي غاية في الأهمية، وكان واضحاً أن الغنوشي الذي كان قضى وأسرته عامين من المنفى في الجزائر بداية التسعينيات، يتمتع بحظوة سياسية لدى السلطة الجزائرية، وكانت هذه العلاقة جزءاً من البحث عن توازنات ضرورية فرضها الأمر الواقع، من دون أن يخل ذلك بمنطق التعامل، دولة لدولة.
بالنسبة إلى الجزء الغالب من النخبة السياسية والمدنية في الجزائر، يمثل الغنوشي، فكراً وتوجهاً سياسياً، تجربة مهمة في تطور علاقة الإسلاميين بالدولة والقيم المدنية والحداثة، وانتقالاً نوعياً في القبول والخضوع في نفس الوقت الى قواعد الممارسة والمنافسة الديمقراطية..
وفي الاحتكام إلى الصندوق ربحاً وخسارة، والتعايش مع الأسر السياسية الأخرى والعمل معها داخل المشترك الديمقراطي، وتعزيز قيمة الحرية الفردية والجماعية قبل أية مطالبات بتطبيق الشريعة.
وحدها هذه الطروحات التقدمية الجديرة بالاهتمام، إضافة إلى اعتبارات أخرى تخص الثقل والتوازنات، هي التي مكّنت لرئيس النهضة التونسية في العلاقة مع السلطة الجزائرية، على الرغم من جزئية مهمة لفهم العلاقة، أن نفس تياره السياسي في الجزائر (إخوان الجزائر)، كان في تلك الفترة تحديدا في أكثر مراحل معارضته للسلطة وللرئيس عبد العزيز بوتفليقة..
يُفهم بكل وضوح، وعن دراية تامة بالسياقات، أن نفي الجزائر علمها المسبق باعتقال الغنوشي، على أنه رسالة سياسية بعدم الرضى على هذا الاعتقال الذي لا يخدم الوضع الداخلي في تونس..
ولذلك ثار سؤال ونقاش كبير في تونس وفي الجزائر أيضاً، مباشرة بعد اعتقال الغنوشي، عن موقف السلطات الجزائرية من اعتقاله، وما إذا كانت الجزائر على علم مسبق بذلك، أو أنها تخلت عنه.
قد تكون الظرفية بالغة الحساسية، والشعرة الرفيعة بين التدخل في الشأن الداخلي وبين مقتضيات الحفاظ على التوازنات، هي التي تصعّب في بعض الحالات، صياغة موقف سياسي يخص شأنا داخليا لبلد آخر والتعبير عنه..
لذلك يتم في الأثناء البحث عن وسائل وصيغ ما، لإيصال رسائل و التعبير عنها، حتى وإن كانت الاستجابة لها تأخذ حيزا من الوقت.
يُفهم بكل وضوح، وعن دراية تامة بالسياقات، أن نفي الجزائر علمها المسبق باعتقال الغنوشي، على أنه رسالة سياسية بعدم الرضى على هذا الاعتقال الذي لا يخدم الوضع الداخلي في تونس..
وصيغة النفي بالمعنى السياسي ها هنا، تفيد بأن السلطة الجزائرية غير موافقة تماما على إقصاء فصيل سياسي لم يبد ما يخرق قواعد الممارسة الديمقراطية..
وقال بشأنه الرئيس عبد المجيد تبون في حواره لصحيفة ليبراسيون الفرنسية (فبراير 2022)، إن الإسلام السياسي في تونس “لا يزعجني، لأنه لم يكن عقبة في طريق التنمية ولم يعلُ على قوانين الجمهورية”، وهو موقف عبر عنه أيضاً بصيغة أخرى الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 2014.
في الغالب يُساء فهم الموقف الجزائري بشأن تونس، ويفسر دائماً على أنه انحياز لطرف على حساب آخر، والحقيقة أن الموقف الجزائري لا ينظر الى تونس من منظار التيارات والتناقضات السياسية الداخلية، والتي تخص التونسيين وحدهم، بقدر الحرص على وضع موانع الانزلاق إلى الفوضى التي يمكن أن تثير غباراً آخر على الجزائر، وعلى المنطقة التي لا ينقصها غبار الأزمات أصلاً.
@ طالع أيضا: تصريحات “تبون” عن تونس.. هل هي متسرّعة؟!
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.