عناوين فرعية
-
الزعامات الكاريزماتية
حين تُسأل (بضم التاء) الشعوب العربية عن زعاماتها، تراها تتحسر على من رحلوا لا على من هم في الحكم. ولو أنهم في حالات كثيرة يجاملون من لا يزالون في الحكم من باب التقية ومن باب النفاق السياسي.
فالجزائريون، حتى جيل الشباب الذين لم يعاصروه، يتحسرون على أيام الرئيس الراحل هواري بومدين رغم ديكتاتوريته مقارنة بديمقراطية خليفته الراحل الشاذلي بن جديد.
والمصريون يتحسرون على أيام الرئيس جمال عبد الناصر رغم انهزامه أمام اليهود على حساب خليفته أنور السادات المنتصر في حرب 1973.
ويتحسر العراقيون اليوم على الرئيس صدام حسين رغم ديكتاتوريته المفرطة التي جعلته يحشر مسدسه في أبسط خلافاته مع خصومه، أو قل من لم يظهروا له الولاء المطلق.
والقائمة تطول إن أضفنا إلى هؤلاء حافظ الأسد في سوريا والملك فيصل في السعودية وياسر عرفات في فلسطين، والحبيب بورقيبة في تونس والملك حسين في الأردن والشيخ زايد في الإمارات، وحتى الملك الحسن الثاني في المغرب..
كلهم كانوا من الزعامات والقيادات التي لم يمكن لشعوبهم تعويضها. فلا الجزائر أنجبت مثل بومدين، ولا مصر أنجبت مثل عبد الناصر وهكذا دواليك.
قد يقول قائل إن الأمر لا يقتصر على الوطن العربي، فلا الهند استطاعت أن تعوض المهاتما غاندي، ولا الصين عوضت ماوتسي تونغ، ولا الفيتنام عوضت هوشي منه، ولا يوغوسلافيا عوضت جوزيف بروز تيتو، ولا كوبا عوضت فيدال كاسترو، ولا كينيا عوضت جومو كينياتا ولا تنزانيا عوضت جوليو سنيريري، ولا جنوب إفريقيا عوضت نيلسون مانديلا، والقائمة تطول..
هؤلاء جميعهم يبدو أن الزعامة هي التي سعت إليهم، أتتهم على طبق من أعمالهم ومواقفهم فاستحقوا اللقب عن جدارة وبقيت صفة الزعامة الكاريزماتية لاصقة بهم حتى بعد رحيلهم وإلى اليوم.
يمكن لنا القول إن هذه الزعامات ظهرت بشكل متزامن في سياق تاريخي ميزه ظهور وتنامي حركات التحرر الوطني في العالم الثالث من جهة، ثم النضال في إطار حركة دول عدم الانحياز من جهة أخرى ونضالها لأجل نظام عالمي جديد.
على مستوى الوطن العربي هناك من يذهب إلى القول بأن جل الزعامات العربية الكاريزماتية كانت تنتمي إلى معسكر الصقور العربية الذي تصدى لإسرائيل، وواجه حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال منظمة الدول المصدرة للبترول أوبيك حين فرض المقاطعة البترولية وأقر منطق أسعار السوق.
وواجه فيما بعد معسكر الخيانة وقطار التطبيع الذي بدأ مبكرا وأخذ منحنى تصاعديا وصل اليوم لا إلى التطبيع فحسب بل إقرار الإبراهيمية كشبه دين جديد يرضى عنه اليهود والنصارى!؟.
لهذا تم استهداف أقطاب هذه المعسكر بالحرص على عدم تعويض تلك الزعامات غداة رحيلها؛ وهذا عن طريق إغراق بلدانها في دوامة عدم الاستقرار السياسي.
فمصر عرفت أطول فترة لأحكام الطوارئ بعد رحيل عبد الناصر وما نجم عن ذلك من فترة عدم استقرار سياسي ما كان ينجو منه النظام المصري لو لم تنقذه اتفاقيات كامب ديفيد والتطبيع مع إسرائيل بما جعل النظام المصري يحظى بدعم أمريكي حافظ على ديمومته واستمراريته حتى عصفت به أحداث الربيع العربي.
وجزائر ما بعد بومدين لم تلبث أن عصفت بها عشريتي الدم والارهاب، وإن كانت خرجت منها منتصرة بفضل حفاظها على الدولة الوطنية، إلا أن الفاتورة البشرية كانت ثقيلة حين فاقت 200.000 ضحية.
وعراق صدام حسين الذي تجرأ يوما وأطلق صواريخه على تل أبيب طل علينا العلوج من شرفات عاصمته بغداد ونصبوا حاكما مدنيا أمريكيا هناك، أعاد العراق إلى حالة شبه احتلال أفضت إلى إعادة تشكيل الحياة السياسية في هذا البلد بما يضمن تحييده عن المعادلة السياسية الإقليمية، ويبقيه مهددا بخطر الانقسام والانشطار.
حتى معمر القذافي الذي لم يكن سوى أرنب سياسي صغير، حين أراد أن يطلع على العالم في ثوب الأسد وقال عبارته الشهيرة: “طز في أمريكا”، دفع الثمن الباهض لاحقا.
بل إن ليبيا هي من تدفع ثمن تلك الرعونة السياسية وهي اليوم على شفا حفرة من الانهيار والانقسام.
واليوم نشهد للأسف آخر حلقات هذا المسلسل بما يحدث لسوريا ما بعد حافظ الأسد.
لكن الذين لا يؤمنون بنظرية المؤامرة يقولون إن السياق التاريخي الذي أدى إلى ظهور الزعامات الكاريزماتية هو نفسه الذي أفضى إلى إنهاء عهدها.
فالزعامات العربية المؤثرة وإن كانت أعمالها لا زالت حاضرة في ضمير الأمة، إلا أنها زعامات ظلت لعقود تقبض على مفاصل الحكم وتحتكر الجغرافيا والتاريخ، والحاضر والمستقبل، وغرست في وجدان شعوبها فكرة الزعيم “ظل الله في الأرض”، و“القائد التاريخي”، وفرضت على الحشود الهتاف بنوع من النفاق السياسي المدمر: “بالروح بالدم نفديك يا زعيم”.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فرض نظام الرئيس السوري على شعبه شعار: “معا إلى الأبد يا حافظ الأسد”. فلما مات حافظ الأسد أدرك الناس ليس فقط محدودية بل وعدمية فكرة أبدية القائد أو الزعيم.
وما مثال الأسد إلا عينة لباقي الأنظمة التي عرفت تحطم صورة الزعيم الأوحد التي أقيمت على منطق “أنا ومن بعدي الطوفان”. وهي صورة تحاول بعض الأنظمة العربية الاستمرار في رسمها.
ولم تسلم الجزائر من المحاولة حين حاول أدعياء العهدة الخامسة للرئيس الراحل بوتفليقة رسم صورة قاتمة ومستقبل مظلم للجزائر إن هي لم تنتخب الرئيس المقعد الذي عمر في الحكم لعشرين سنة ويريد أن يحكم أبديا، ولما لا يورث الحكم لأخيه الذي تمكن من مفاصل الدولة ما دام الرئيس يجلس على كرسي متحرك، فلماذا لا يجلس الأخ على كرسي المرادية؟
مثل هذه الممارسات زادت من نفور الشعوب من حكامها، ونبذها لفكرة الزعيم الذي لا يعوض.
ليس من الصواب أن نقول نحن الجزائريون إن أرحام الجزائريات عجزت عن إنجاب مثيل بومدين، ولا أن يقول المصريون إن أرحام المصريات عاجزة عن إنجاب مثيل عبد الناصر.
بل الصواب أن نقول أن الشعوب العربية في ظل التحولات العالمية وتحولات الساحة العربية ومنها الربيع العربي لم تعد بحاجة لزعامات كاريزماتية جديدة، بقدر ما تريد رؤساء طبيعيون تنتخبهم شعوبهم، يخضعون للمحاسبة. يلجون بوابة الحكم بالشكل الديمقراطي ويخرجون منه بشكل ديمقراطي.
فالزعيم هو من لا يتعامل مع الفقه السياسي الوطني والدولي بالمراوغة والاحتيال وخطابات الإنشاء والجمل السمينة. بل الزعيم هو من يخدم شعبه خلال عهدته الرئاسية ليفسح المجال للتداول السلمي على السلطة. وثمة أمثلة في العالم عن هذه الشاكلة من الزعماء رحلوا وظلت أسماؤهم وأعمالهم في ضمير أمتهم.
لهذا وإجابة على السؤال: لماذا لا يتكرر أمثال عبد الناصر وبومدين نقول: أن متطلبات الدولة المدنية المعاصرة وتفضيل الشعوب للممارسة الديمقراطية على حبها لأي شخصية سياسية وازنة مهما كان شأنها عاملان لا يسمحان بظهور أمثال بومدين وعبد الناصر.
خصوصا أن تحديد العهدات الرئاسية في كثير من البلاد ومنها الجزائر لا يسمح ببروز الزعامة السياسية الكاريزماتية التي قد يتطلب ترسيخها سنوات قد تطول وتفوق ما هو محدد من عهدات. وحنين الشعوب إلى الأيام الخوالي مع رؤساء جسدوا تطلعاتهم لا يعني أنهم يرغبون في تكرار التجربة بنفس طريقة حكم هؤلاء.
فالجزائريون وعلى حبهم الشديد لبومدين، لا نراهم يرغبون في إلغاء المكتسبات الديمقراطية الحاصلة في البلاد لأجل عودة بومدين جديد إلى سدة الحكم بنفس طريقة ومنهج الموسطاش كما يسميه الجزائريون.
ورغم هذا يبقى الاستثناء وارد لظهور هذا الصنف من الزعامات الكاريزماتية في ظل التحولات السياسية التي يعرفها الوطن العربي.. وليتها تتجلى…!
@ طالع أيضا: لماذا أجمع العرب على اغتيال الصحافة الساخرة..!؟
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.