"... وفي البلدان المغاربية التي احتضنت هؤلاء البؤساء، وعلى رأٍسها المغرب (تطوان والجْبَالَة...) والجزائر (جيجل...) وتونس، ما زالت طبخة "الدّْشِيشْ" الشعبية في الأندلس حاضرة، لا سيما في الأرياف بسبب كون هذه الطبخة طعاما للفقراء ومتواضعي الحال، وتُنطَق بشكل عام بذات الصيغة التي كانت تُنطق بها في "الفردوس المفقود": أيْ "الدّْشِيشْ" وليس "الجْشِيشْ" أو "التّْشِيشْ" كما تُنطَق عادةً لدى بعض البدو. التشابه مؤكد نُطْقًا ومضمونًا بين طنجة وقبائل جبال جيجل "الأندلسية" حسب أوصافه والتوضيحات التي ذكرها ويليام مَارْصِي بشأن هذا الطبق.
ما زال الكُسكس يُطبخ إلى اليوم حتى في البيوت في بعض المناطق النائية في شرق إسبانيا في الأوساط المحافِظة المنحدرة من الأندلسيين/الموريسكيين كما هو الشأن في بلدة رِيُّوبَارْ (Riopar) الواقعة في قلب سييرا ديل سيغورا..
وما زال الكسكس سيد الطبخ المغاربي منذ أن وُجد في الأندلس وتعززت شعبيته بلمسات محلية ذَكَرَهَا ابن رزين التَّجِيبِي في كتابه “فضالة الخِوان في طيبات الطعام والألوان”، بل ازداد انتشارًا وتوسعًا في جنوب أوروبا بحيث أصبح يوصف منذ العقد الأول من القرن 21م وحتى الآن بأولَ طبق في قائمة فن الطبخ الفرنسي بعد أن خطا أولى خطواته في شمال إفريقيا قبل آلاف السِّنين قادما في أحْمَالِ وأمتعة التُّجار الفينيقيين.
بل ما زال الكُسكس يُطبخ إلى اليوم حتى في البيوت في بعض المناطق النائية في شرق إسبانيا في الأوساط المحافِظة المنحدرة من الأندلسيين/الموريسكيين كما هو الشأن في بلدة رِيُّوبَارْ (Riopar) الواقعة في قلب سييرا ديل سيغورا (Sierra del Segura) القريبة من البسيطة (Albacete) لدى عائلة خوان لوبيث غونثاليث ( Juan Lopez Gonzalez) الذي كان يَفْتُلُهُ بيديْه قبل وفاته عام 1986م حسب شهادة ابنته فينيرادا (Venerada).
فينيرادا التي هي اليوم على عتبة العقد السادس من العمر تفاجأتْ مفاجأة كبيرة خلال سنوات العيش في المهجر الفرنسي عندما ناداها زميل مغربي كان يعمل معها في المصنع بهذه الجُملة الشعبية في المنطقة المغاربية: “أَرْوَاحِي مَنَّا” (تعالي من هنا). تفاجأت، لأن هذه الصيغة هي ذاتها التي كان يناديها بها والدها خوان لوبيث غونثاليث في بلدته ريوبار، التي لم يغادرها إلا نادرا ولم تكن تربطه علاقة بالعرب واللغة العربية، لكن بفارق طفيف في النطق حيث كان يقول: “أَرْوَاخِي مَنَّا” …
لكن الكسكس، هذه الوجبة الأندلسية/المغاربية التي يشيع بأنها ذات أصل أمازيغي وإن كانت أقدم مما نتصوَّر، لا تُسمَّى الـ: “كُسْكْسُو”، مثلما كان يقول الأندلسيون، إلا في مناطق محدودة من الجهات التي سكنتها جاليات أندلسية كبيرة مثل مدينة الجزائر، فيما انتشرت تسمية “الطعام” بدلا من الكسكس في كل من طنجة وتلمسان وندرومة ومجمل أرياف الجزائر . أما في جيجل فتطغى تسمية “النَّعْمَة” أولا، مثلما هو الشأن في بعض جهات ليبيا، ثم تأتي تسمية “العَيْشْ” أحيانا، ولو أن “العيش” يُطلق أصلا على “البَرْكُوكَسْ” في جيجل.
الباحث المغربي إبراهيم حركات: “كُلٌّ من الكسكس والبركوكش (أيْ البَرْكُوكَسْ Ndlr) والدشيش أطعمة فينيقية الأصل، (…)، أمَّا الخْلِيعْ فانتقل إلى المغرب من الأندلس. ولذلك، لا يستعمله إلا أهل المدن المتأثرة بالطابع الأندلسي”
وعلى ذِكْر هذيْن الطبقيْن التقليدييْن، يحضرنا ما قاله الباحث المغربي إبراهيم حركات عن أصًولهما التاريخية وأصول أخرى حيث كتب في “السياسة والمجتمع في العصر السعدي” يقول إن “كُلٌّ من الكسكس والبركوكش (أيْ البَرْكُوكَسْ Ndlr) والدشيش أطعمة فينيقية الأصل، (…)، أمَّا الخْلِيعْ فانتقل إلى المغرب من الأندلس. ولذلك، لا يستعمله إلا أهل المدن المتأثرة بالطابع الأندلسي”.
وأشاع الأندلسيون/الموريسكيون في البلدان المغاربية عددا كبيرا، يصعب تحديده بدقة، من الأطباق وأطْيَب ما جادتْ به عبقريةُ نسائِهم ورجالهم من ملذَّات الطعام على غرار “الدُّوَيْدة” و”الفْدَاوَشْ” و”المِرْقَاصْ” ، أو ما يُعرَف اليوم باللغة الفرنسية بـ: المرقاز (Merguez) ويُنسَب خطأً، في مدينة الجزائر على الأقل، إلى الفرنسيين، والكِبَاب، الذي نعتقد عادةً أنه عثماني/تركي فيما هو أقدم من إمبراطورية آل عثمان ومن أصنافه ما يُعرَف اليوم في إسبانيا وأمريكا الجنوبية بـ الـ: “تَّابَاسْ” (Tapas)، والمُجَبَّنات التي اشتهرتْ بها مدينة شريش الأندلسية حتى قيل إن مَن لم يأكل مُجبّنات هذه الحاضرة فهو يعاني الحرمان، ومختلف أصناف الخبز، بما فيه المحشو باللوز والجوز وبالزبيب والعديد من أنواع الفواكه المجفَّفة…
وأبدع أهل الاندلس في ابتكار أساليب متنوعة في تجفيف مختلف الفواكه في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس من أجل أن تتوفر في مطابخهم على مدار العام كالعنب والمشمش والتِّين الذي أطلقوا عليه أيضا تسمية “البَرْقُوقْ” التي تُنسب إلى المؤثرات اللغوية الرُّومانية (Romane) التي كانت متدَاولة في الأندلس. وقد نقل لنا ابن العوام الإشبيلي تقنيات متعددة في هذا المجال يمكن الاطلاع عليها في مؤلفاته.
أليس أحد أشهر صُنَّاع الحلويات في مدينة تلمسان الجزائرية العريقة هو الوليّ الصالح الزاهد والعالِم المتصوِّف الأندلسي الذي امتهن القضاء في إشبيلية قبل الانتقال إلى البلاد الجزائرية أبا عبد الله الشُّوذي الشهير بـ: سيدي الحَلْوِي نسبةً إلى حرفته في تلمسان؟..
ولا يمكن أن نتحدث عن التأثير الأندلسي/الموريسكي في فنون الطبخ في المَهاجِر، لا سيما في منطقة المغرب العربي، دون الحديث عن الثورة التي أحدثوها في مجال تحضير الحلويات.
أليس أحد أشهر صُنَّاع الحلويات في مدينة تلمسان الجزائرية العريقة هو الوليّ الصالح الزاهد والعالِم المتصوِّف الأندلسي الذي امتهن القضاء في إشبيلية قبل الانتقال إلى البلاد الجزائرية أبا عبد الله الشُّوذي الشهير بـ: سيدي الحَلْوِي نسبةً إلى حرفته في تلمسان؟ وما زالتْ إحدى المقابر العتيقة التلمسانية تحتضن منذ عام 1337م ضريحَه وتحمِل إلى اليوم اسمَه؟
إننا نعلم من الاطلاع على التراث الأندلسي في هذا المجال، لا سيَّما كتاب “فضالة الخوان” للتَّجِيبِي و”المقنع في الفلاحة” لابن الحجاج الإشبيلي، أن الحلويات الدائرية الشَّكل المحشُوَّة باللوز والمُلبَّسَة بالسكَّر المعروفة بـ: “الكْعِيكْعَاتْ” في مدينة الجزائر وبـ: “الكَعْكْ” في تونس، وحتى شبيهتها في البلد ذاتِه المعروفة بـ: “كَعْكْ الوَرْقَة”، وغيرها من أصناف الكعك على غرار “الكَعْك الإسفنْجي” المُسَكَّر المعروف إلى اليوم في إسبانيا باسم Rosquillas esponjosas، هي في الحقيقة من ذخائر أهل الأندلس التي جلبوها معهم إلى البلدان المغاربية، مثلها مثل “الفَانِيدْ” و”النُّوغَة” و”المَاسَابَانْ” الذي ينطقه الإسبان إلى اليوم “المَاثَابَانْ”، وهي حلويات مصنوعة من السمن والسُّكَّر واللَّوز جلبها أهل الشام إلى طليطلة منذ العهود االأندلسية الأولى قبل أن تتوسَّع رُقعتها الجغرافية لتشمل إيطاليا والمجال المغاربي بِرُمَّتِه.
وعُرف من الروايات الشعبية، في تونس وتستور وقلعة الأندلس بشكل خاص، أن الموريسكيين كانوا خلال رحيلهم من إسبانيا، طَرْدًا أو هجرةً، يخفون في جوف هذه الأصناف من الكعك الخواتم والأحجار الكريمة ومختلف المجوهرات الثمينة لتهريبها والحؤول دون مصادرتها من طرف السلطات الإسبانية ومحاكم التفتيش وكتائب العسكر الإسباني التي كانت تؤطِّر عملية الترحيل، وبطبيعة الحال عمليات النهب والسلب…”.
◾️فوزي سعد الله: الشتات الأندلسي في الجزائر والعالم. دار قرطبة. الجزائر 2016م.◾️
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.