حركة التاريخ لا تسير وفق رغباتنا.. ما أن ألغى أردوغان قرار حكومة أتاتورك حول مسجد أيا صوفيا حتى ثارت في المنطقة العربية جدلية النقاش التي لم تبق شيئا إلا وطالته.. كره البعض أردوغان فشيطنوا العثمانيين بل ومحمد الفاتح، وشككوا بقيمته وبأهمية فتحه للقسطنطينية وانشغلوا بالتشكيك في ما تردد من أثر لصالحه.. وبأثر رجعي ذهبوا لاتهام العثمانيين بأنهم سلموا بلداننا لفرنسا وبريطانيا وأنهم قبل ذلك كانوا غزاة ومحتلين..
وأعجب البعض بالعثمانيين وتاريخهم وتصديهم للهجمات الصليبية على شمال إفريقيا وصدهم للغزاة وتوجههم لفتوحات واسعة في أوربا الشرقية، وحفاظهم على شعار الإسلام ووحدة ديار المسلمين، وخلعوا على السلطنة مصطلح الخلافة، وبكوا سقوطها كما لو كانت الخلافة الراشدة، فمجّدوا أردوغان والتمسوا فيه سيرة السلاطين العثمانيين، فبرروا له ما كيل له من تهم، ودافعوا عنه فلم يروا له مثلبة.. وجدوا في علاقته بأمريكا سياسة، وفي سكوته عن الوضع الاجتماعي الأخلاقي في تركيا حكمة، وفي علاقته بإسرائيل اضطرارا لن يطول، وفي تدخله في سورية وليبيا واجبا شرعيا.. فكيف نفك الاشتباك بين الكارهين والمحبين؟.. نحتاج إلى التحلي بالموضوعية والإنصاف والتحرر من المواقف المسبقة لنتجنب الزلل و الكمائن القاتلة، ولنضع الوقائع في سياقاتها علنا ندرك حقيقة المواقف واتجاهها.
خصوم العثمانيين:
في تجمع الناقدين والقادحين أصناف من الناس بعضهم ينبعث من موقع قومي عرقي عروبي ينتخي لعصبيته ضد سيطرة سواها من المسلمين، وبعضهم ينبعث من ثقافة حداثية تمد جذورها في الرواية الاستشراقية، فتثور حداثته ضد السلطنة وفتوحاتها شرقا وغربا، ومنهم من ينطلق من رؤية قطرية “وطنية” فتأنف نفسه أن يرى نموذجا يسعى لتكسير الحدود الوطنية، ومنهم من يخلط بين سوابق السلطنة العثمانية وأواخرها فيأخذ الصالح منها بجريرة الطالح، ومنهم من ينبري للتشكيك في التاريخ العثماني انطلاقا من موقف سياسي وفكري تابع لطائفة إسلامية معينة خشية أن يمتد الطرح العثماني السني فيحشد معه أهل السنة في بلاد العجم والعرب فيضمحل المد الآخر، ومنهم من يتحرك وفق مهمة موكلة له لتخريب الأمة أو يتطوع بذلك إرضاء للصهاينة وأعداء وحدة الأمة، ومنهم من بنى موقفه على معطيات جزئية فاختصر تيار التاريخ في سلوكات فردية لهذا السلطان أو ذاك فحرمه ذلك من رؤية المسيرة كلها.
وكما هو واضح فإن تيار القادحين كبير يمتلك من الوسائل الكثير وباستطاعته أن يصنع رأيا عاما تشترك في صناعته المشارب المختلفة ويستفيد بعضها من بعضها، و يستطيع هذا التيار أن يحشد قوى هائلة في مواجهة طموحات أردوغان ومشروعه.. ولعل أهم الانتقادات تلك التي توجه لطبيعة الدولة العثمانية في بلاد العرب عن كيفية إدارة الأوضاع الداخلية وذهب البعض إلى القول أن العثمانيين سلموا بلاد العرب للفرنسيين والانجليز، بعد أن نهبوا خيراتها.. وفي مواجهة أردوغان تدور الانتقادات حول علاقة تركيا بالكيان الصهيوني و علمانية الدولة التركية وتدخلات أردوغان في سورية وليبيا وسواها من بلاد العرب..
أما فكرة تسليمهم لبلاد العرب للفرنسيين والانجليز فهذا فيه مبالغة وظلم، فتسليم بلاد العرب لم يكن بإرادة منهم إنما بضعف ضرب في أوصالهم ومزق كيانهم.. فلقد أسقطوا الحملة الفرنسية على فلسطين في عكا سنة 1799 وواجهوا الفرنسيين في الجزائر بقيادة الباي الحاج أحمد1830 في ظل اختلال موازين القوى.. وقاتلوا دفاعا عن فلسطين والقدس سنة 1917 إلى آخر لحظة في حين تحالف القوميون العرب مع بريطانيا ضد الخلافة العثمانية…
يصعب تشكيل جملة واحدة تأخذ بعين الاعتبار كل المشارب المختلفة والمتناقضة للناقدين لكن بهدوء يمكن القول أن أول عهد العثمانيين ليس كآخره فلقد بدأوا بحماية ديار المسلمين من غزو الفرنجة في شمال إفريقيا بعد أن عمل الأسبان الغزاة على تنصير أهل سواحلها فكان إنقاذ العثمانيين لها وبطلب من أهلها عملية تاريخية حافظت على البلاد ودينها وهويتها ولغتها واشتهر لديهم القانون والإدارة وتكوين الجيوش والأساطيل لرد الجنوح الصليبي قرونا عدة، وأما فكرة تسليمهم لبلاد العرب للفرنسيين والانجليز فهذا فيه مبالغة وظلم، فتسليم بلاد العرب لم يكن بإرادة منهم إنما بضعف ضرب في أوصالهم ومزق كيانهم.. فلقد أسقطوا الحملة الفرنسية على فلسطين في عكا سنة 1799 وواجهوا الفرنسيين في الجزائر بقيادة الباي الحاج أحمد1830 في ظل اختلال موازين القوى.. وقاتلوا دفاعا عن فلسطين والقدس سنة 1917 إلى آخر لحظة في حين تحالف القوميون العرب مع بريطانيا ضد الخلافة العثمانية.
يسأل البعض لماذا لم يقم الأتراك معالم حضارية في بلاد العرب لاسيما شمال إفريقيا كما بنوا في تركيا؟ وهنا يحتاج المرء إلى معرفة طبيعة العلاقة بين إيالات شمال إفريقيا والأستانة وينبغي عدم إسقاط الصورة النمطية للاستعمار على الحالة العثمانية.. لقد كان الاستعمار إحلالي استيطاني يبني له دولة ومؤسسات وعقارات، أما العلاقة بين معظم بلاد العرب والسلطنة أقرب إلى التحالف منها إلى دولة مركزية تدار بجاهز واحد، لهذا ترك أمر العمران والتعليم والتجارة والصناعة لأهل البلد، عكس ما تم في تركيا والولايات القريبة منها حيث استدعى الأمر إلى إقامة بنيان وتشييد معالم كما في شرق أوربا، فلقد كان لداي الجزائر مثلا أن يقيم علاقاته مع بريطانيا وفرنسا بمنأى عن توجيهات السلطان، أما الثروة فكانت تنفق داخل البلاد في معظمها إلا أن يرسل الداي بعض ما يفيض لجيرانه في طرابلس وتونس أو أقطار إسلامية أخرى ولهذا استطاعت الجزائر أن تقرض فرنسا خمسة ملايين جنيه ذهبا بما يعادل عشرات مليارات الدولارات الآن وكان للجزائر أسطولها الحربي البحري -كما كان لطرابلس- يفرض قوانينه دونما رجوع للأستانة.. وكانت المهن والحرف في تطور كبير في الجزائر محققة اكتفاء ذاتيا بل وتصدر منتوجاتها، وكان لكل مهنة أو حرفة شيخ يجتمع الجميع مع ممثلي الجيش لينتخبوا حاكما لهم “الداي” يرسلون للأستانة باسمه فتبارك الأستانة تنصيبه.. لم تكن السلطنة العثمانية إمبراطورية إنما إطار سياسي يجمع المسلمين لعل فيه نقصا ما أو تخلفا ما أو جمودا وعدم تطور ولكنه في كل أحواله كان نظاما جامعا للأمة مدافعا عن حياضها..تحرك العثمانيون لتوحيد الأمة في كيان سياسي واحد، انتصروا على الصفويين، واخضعوا المماليك سنة 1516، ودخلوا القاهرة. و بايعهم شريف مكة وقدم مفاتيح الحرمين الشريفين ، وتنازل آخر الخلفاء العباسيين عن الخلافة لسلطان آل عثمان، فأصبح كل سلطان منذ ذلك التاريخ خليفة، ويحمل لقب “أمير المؤمنين”.
لهذا استطاعت الجزائر أن تقرض فرنسا خمسة ملايين جنيه ذهبا بما يعادل عشرات مليارات الدولارات الآن وكان للجزائر أسطولها الحربي البحري -كما كان لطرابلس- يفرض قوانينه دونما رجوع للأستانة..
عانت السلطنة في القرن الأخير هزيمتها في معركة “نافارين” البحرية أمام بريطانيا وفرنسا وروسيا ومن ورائهم الدول الأوربية جمعاء سنة 1827 فلقد كانت المعركة البحرية فاصلة بين مرحلتين فبعد تدمير أسطولها البحري والأسطول الجزائري والمصري وكانت بداية الزحف الاستعماري الحديث على بلاد المسلمين عربا وعجما.. وعجل من الأمر قيام الثورة العربية الكبرى بقيادة شريف مكة الشريف حسين بالتحالف مع الانجليز ضد العثمانيين سنة 1916 وكان لها أثر بالغ في زعزعة أركان السلطنة فكان الانهيار وتقسيم أراضي “الرجل المريض” وضياع فلسطين وتجزئة بلاد العرب.. وتم فرض الشروط على مركز السلطنة لتغيير هويتها وتدمير روحها وتم توقيع الاتفاقيات في لوزان 1923 فألغيت الشريعة وغير الحرف العربي وفرض دستور علماني وتم قطع الصلات بالعالم الإسلامي تماما، وبهذا سقطت الدولة العثمانية فعليًا بعد أن استمرت لما يقرب من 600 سنة، وقد رثا أمير الشعراء أحمد شوقي الدولة العثمانية بأبيات من الشعر قال فيها:
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهةٌ ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحَّاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح؟!
أما أردوغان ومشروعه فهو يبني دولة عصرية بمقومات واقعية ولعل المتابع لتطور تركيا في عهده يكتشف أن الاقتصاد التركي قفز قفزات كبيرة وأن الحضور التركي في الإقليم أصبح فاعلا ومؤثرا.. ولقد تمكنت الصناعة لاسيما الصناعة الحربية في عهده كما التجارة والسياحة والخدمات والإنشاءات على سبيل المثال المطار والعمران بمعنى اقتصاد وطني استطاع مواجهة التحديات.. كما أن معدلات الدخل القومي ارتفعت بنسب متسارعة.
لقد كانت إدارته السياسية لعلاقاته الدولية مع الأمريكان والروس والأوربيين ناجحة محاولا الاستفادة مما ورثه من وجود في الحلف الأطلسي ومن موقعه الاستراتيجي.. وداخليا استطاع أردوغان أن يلجم العلمانية المتوحشة في الجامعة والمجتمع وان يحرم العلمانية من دفاع الجيش، وشجع على انتشار التعليم الإسلامي في تركيا، وأبدى اهتماما بالغا بإحياء الروح العثمانية من خلال علاقاته بأقاليم الخلافة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي ومنطقة البلقان على اعتبار أنها مجاله الحيوي.. وأقام علاقات وثيقة بباكستان وقد يكون استفاد من قدراتها النووية وكذلك علاقات متميزة مع ماليزيا واندونيسيا.. أما العلاقة بإسرائيل المتشعبة والمتعددة فمن الواضح أن شخصية أردوغان لا تتقيد بشيء في العلاقات السياسية.. يتحرك كسياسي وهو يعرف ان اقترابه من المواجهة مع إسرائيل سيعرضه لضربات عنيفة ساحقة ومن هنا يقدم أصدقاؤه التبرير بان القوة أولا إلى حين تتراكم القوة ولعل الصهاينة بدأوا يتحسسون ذلك كما أفادت صحيفة “جيروزالم بوست” أول أمس، في افتتاحية لها، بأن تركيا تتحول وبشكل متزايد إلى تهديد لإسرائيل، لافتة إلى تصريحات الرئيس التركي بأن “أنقرة ستحرر الأقصى”..
المدافعون عن أردوغان:
الموقف المنافح عن أردوغان ينبعث في مجمله تقريبا من تيار متشبع بفكرة الخلافة والتحسر على سقوطها انه التيار الإسلامي الأكثر انتشارا والأقدر تنظيما في بلاد العرب والمسلمين.. وهؤلاء يضفون على السلطنة لقب الخلافة ويرجعون سبب إسقاطها إلى تمسك الخليفة السلطان عبدالحميد بفلسطين وإصراره على الشريعة ووحدة الأمة الإسلامية ووقوفها ضد الأطماع الغربية في بلاد المسلمين..
قد ولد هذا التيار في 1928 بعد سقوط نظام الخلافة محاولا استئناف العمل لإعادتها.. ولم يخف زعماؤه مواقفهم المنادية بها أمام كل محاولات التشكيك.. وطرح هذا التيار في الدول العربية والبلدان الإسلامية السنية حول الخلافة متقدم عن طرح أردوغان الذي يلامسها عن بعد.. ومثل هذا التيار رديفا حقيقيا لأردوغان وكما قال رئيس وزراء باكستان في مداخلته أمام البرلمان الباكستاني موجها كلامه لأردوغان بعد كلمته: “أنت السلطان لو ترشحت في باكستان فأنت الذي سيفوز..”
تعاظم حضور أردوغان والفكرة العثمانية مع الربيع العربي الذي أسهم فيه أردوغان بقوة سواء من خلال علاقاته مع الرئيس الأمريكي أوباما أو من خلال إعلامه وتحركه السياسي بل والعسكري أحيانا وكان واضحا انه سيحسم جولة خطيرة بوصول الإسلاميين للحكم في مصر وتونس وسورية وليبيا واليمن إلا أن سقوط الإخوان في مصر وتمزقهم في سورية وترددهم في تونس وضعفهم في ليبيا وقسوة ظروفهم في اليمن أملى عليه محاولة امتلاك عناصر قوة جديدة مع عدم التسليم بالنتائج التي آلت إليها الأوضاع في تلك البلدان.
المدافعون عن تجربة أردوغان بتفاصيلها ومواقفه بالجملة سيضطرون من حين الى آخر إلى التراجع والتبرير لأن أردوغان يمارس سياسة، وما هو ثابت لديه اليوم يمكن تغييره غدا، وكما قال هو: أنا لم أتغير ولكني أتطور.. وهنا كان لابد من وضع رؤية خاصة بهم لا يلقون على تركيا أحمالهم، ولا يتحملون المواقف التكتيكية لأردوغان..
نؤجل أسئلتنا حول الخلافة العثمانية ولطبيعة نظامها السياسي وطريقة إدارتها لعلاقاتها الخارجية وللأوضاع في داخل الأمة، ونطرح أسئلة المعارضين من وطنيين وقوميين للمنخرطين في الدفاع عن أردوغان وتعظيم الخلافة العثمانية، هل من المنطقي التصاق المشروع الإسلامي المعاصر بنظام دولة علمانية مبنية على أسس العلمانية المعاصرة؟ ثم ما هي ضمانات تطور هذه التجربة إلى إسلامية وليست قومية؟ وما هي ضمانة تحرك تركيا من أجل فلسطين والقدس وإحداث القطيعة مع الكيان الصهيوني ومواجهته؟ ثم ما هي ضمانة قيام تركيا بتقديم المساعدة للدول العربية والإسلامية المنضوية في المشروع لتعظيم اقتصادها وتطوير بنيته التحتية؟ وهنا يبرز نموذج سورية حيث يشير الناقدون الى قيام الدولة التركية بتحطيم الاقتصاد السوري منهجيا؟
النقد هنا لا يتجه إلى طبيعة النظام وبنائه الداخلي فهذا شأن يخص الشعب التركي، إنما إلى سلوكه الإقليمي تجاه الدول العربية فليس من مبرر للانخراط في عملية تدمير سورية اقتصاديا وسياسيا برغم كل ما يمكن قوله عن النظام السوري، فلقد حل بها تغيير ديمغرافي و استعمار روسي وهناك اتهامات حول إسهاماته في سد النهضة الإثيوبي حيث يلتقي هناك مع النشاط الصهيوني.. فهل الخصومة مع النظام المصري والنظام السوري تدفع إلى أي عمل حتى لو كان تدمير البلدان العربية؟ هذه أسئلة تحتاج إجابة بينة لا لبس فيها.
المدافعون عن تجربة أردوغان بتفاصيلها ومواقفه بالجملة سيضطرون من حين الى آخر إلى التراجع والتبرير لأن أردوغان يمارس سياسة، وما هو ثابت لديه اليوم يمكن تغييره غدا، وكما قال هو: أنا لم أتغير ولكني أتطور.. وهنا كان لابد من وضع رؤية خاصة بهم لا يلقون على تركيا أحمالهم، ولا يتحملون المواقف التكتيكية لأردوغان.
خلاصة القول:
إن الوطنيين والقوميين يبالغون في رفض التفاعل مع التجربة التركية ويمعنون في التنصل من العهد العثماني بقسوة مخلة، كما أن الإسلاميين ومن يسير في تيارهم يبالغون في انحيازهم لتجربة أردوغان التي لم تكتمل بعد وفيها مثالب على الأقل حاليا يصعب الدفاع عنها..
إن استعداء تركيا أمر غير حكيم وليس إلا لمصلحة أعداء الأمة، كما أن الانزياح بشكل كامل نحو تجربة تركيا لاسيما في المشكلات العربية الداخلية إلى درجة تجاوز الحساسيات الوطنية والقومية يفقد المشروع الإسلامي أرضه وخصوصيته.. ومن هنا يصبح على الأتراك والعرب فتح حوارات إستراتيجية لعلاقات أخوية عميقة فيها المنفعة للعرب ولتركيا والله غالب على أمره.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.
تعليق 7333
الخلافة لا تبنى على جثث و أشلاء الأبرياء من المجتمعات العربية ، التي عاث فيها أنصار الخلافة فسادا رهيبا ، أتى على الأخضر و اليابس ، وعلى كل مقومات الحياة . وكل ما بني على الأشلاء فهو باطل مرفوض عقلا و دينا ، وشرعا و منطقا . ومهما تحققت من انتصارات لأصحاب الخلافة ، فهي انتصارات وهمية ، مؤقتة ، وستزول في قادم الأيام ، وسيأخذ الثأر مجراه ، وستتضاعف المأساة أكثر مما هي عليها اليوم . فكل بناء اجتماعي يحتاج إلى أسس متينة قوامها الأخوة و التصافي والتعاون و التآزر ، بعيدا عن الدم و الدموع والانتقام والتزمت . فما هو واقع اليوم من مآسي إنسانية رهيبة ، من ورائه عقول جاهلة جهلا مركبا ، هدفها الأول و الأخير تحقيق المصلحة الشخصية الآنية ، و ليذهب الجميع إلى الدرك الأسفل من الجحيم ، تحت شعار : أنا ومن بعدي الطوفان .فهؤلاء المغامرون باسم الإسلام ، وهو براء منهم كل البراءة ، لا يقدرون العواقب التي ستظهر مستقبلا ، بل إنهم يزرعون قنابل عنقودية ، لها بداية و ليست لها نهاية. فالقاعدة المتينة التي تبنى عليها الخلافة تقوم على ما أمر به الله – عزّ وجلّ – في قوله الحكيم : ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. والسلام على كل ذي عقل و لبّ و ضمير حيّ.