تابعت كغيري من رواد هذا الفضاء الجدل الكبير الذي أثاره "الحشد" الشبابي الذي شهده رواق الدار التي يعرض بهآ الكاتب السعودي المسمى "المسلم" مؤلفاته الروائية، في إطار فعاليات الطبعة السابعة والعشرين من معرض الجزائر الدولي للكتاب هذه الأيام بالعاصمة الجزائر...
وقد انقسم الجدل بين مرحب، فرح، مادح، مشجع لهذا الإقبال الشبابي، على أساس أن فعل “القراءة” والمطالعة فعل حضاري جميل يجب تشجيعه مهمآ كان نوع المادة التي يطالعها هؤلاء الشباب، وقد أضاف بعضهم على ذلك الشجيع ضرورة المرافقة والتوجيه لهذا الفعل بمآ ينمي “المكتسب القيمي” عند هؤلاء “الشباب القراء”..
فيما ذهب قسم ثان إلى النقيض من ذلك بين متهم، متهجم، مسفه، منتقص، مخذل لهولاء الشباب أو مستهزئ ساخر منهم في أحسن الأحوال..
على اعتبار انسياقهم وراء الخيال والوهم والتفاهة والانحراف نحو الشعوذة والسحر وعوالم الجن وغيرها من التهم الجاهزة..
أما أنا -عائذا بالله من قول أنا- فقد رحت أفكر في الأمر من زاوية أخرى محاولا الإجابة على إشكالية كبرى نواجهها نحن المتعاملين مع هذا الجيل كمدرسين “لنخبته” ممن يفدون علينا كطلاب في الجامعة.
ألا وهي إشكالية الضعف اللغوي حد التصحر الذي يجعل من هؤلاء الشباب “النخبويين” لا يقوون على الإجابة بلغة سليمة، وبأسلوب سلس على أبسط سؤال يطرحه عليهم المدرس..
وقياسا على السؤال الشهير لأسطورة “جحا” التي علقت في أذهاننا من أيام الدراسة في الصبا “إذا كان هذا هو وزن القط فأين وزن اللحم؟”، تساءلت: إذا كانت هذه الحشود الشبابية فعلآ تطالع بهذا النهم الذي يجعل منهآ تشد الرحال من أقاصي البلد من أجل الظفر ببعض مؤلفات كاتب سعودي..
فإلى ما يرد هذا الضعف اللغوي الذي يعاني منه الطلاب، وقد تعلمنا منذ الصغر قاعدة ذهبية، مفادها أنه ليس هناك أحسن لتنمية الملكات اللغوية من المطالعة بمثل نهم هؤلاء الشباب”؟..
طبعآ حاولت الوصول إلى بعض الاستنتاجات إنطلاقا من بعض الأدوات والمناهج التي نستخدمها في تحليل الظواهر الإجتماعية كباحثين في العلوم الإنسانية، لكنني لم اقتنع بالأمر وانتظرت اللقاء الأسبوعي الذي يجمعني مع الطلبة في كلية الإعلام..
وكان هذا السؤال هو موضوع” التطبيق العملي” معهم في مقياس “فنيات التحرير الصحفي” وقد وجدت عند “جهينتهم الخبر اليقين” ولعله من حسن الحظ أن من بين هؤلاء الطلبة من كان ضمن ذلكم “الحشد”..
اعتمدت في أسئلتي للطلبة طريقة التدرج من العام إلى الخاص فسألتهم في البداية إن كانوا على علم بطابور الحشد الشبابي في معرض الكتاب أمام الكاتب السعودي، وإن كانوا أساسا يعرفونه من قبل؟
فكانت إجابات أغلبهم بالإيجاب، ثم سألتهم إن كان من بينهم من كان حاضرا في ذلك الحشد؟ فرفعت طالبة أو اثنتان يدها بالإيجاب..
بعدها وجهت إلى الجميع سؤال الإشكالية الأول: إذا كان أغلبكم يعرف الكاتب السعودي وربما غيره من الكتاب وتقرأون لهم، فما سبب الضعف اللغوي الذي يعاني منه أغلبكم إن لم نقل كلكم؟
نفس الأسئلة وبنفس الطريقة كررتها مع بقية الأفواج طيلة آليوم، وقد حاولت الاستماع إلى أكبر عدد من الطلاب في كل فوج، فكانت إجابات الأغلبية الساحقة أن معرفتهم بالكاتب السعودي كانت عن طريق شبكات التواصل الإجتماعي، خاصة التيكتوك “Tik Tok” ..
إذ أن الكاتب المذكور يعمد إلى نشر مقاطع صغيرة في هذآ الموقع يختارها بعناية فائقة، يعمد فيهآ إلى ملامسة خيال الشباب بطريقة مثيرة جدآ عن تلك العوالم الغريبة عن عالمهم الواقعي، بمآ يدفع فضولهم إلى حب تلقي المزيد من تلك “الكبسولات” المركزة من فقرات الكاتب حد التعلق بهآ والبحث عنها وتداولها بينهم..
حتى أني اكتشفت أن بعضهم يعرف تلك الفقرات ويدمن قراءتها لكنه تفاجأ أن صاحبها هو الكاتب السعودي، إذ أنه لم يكن يعرف اسم صاحبها من قبل..
وهكذا فقد كانت مناسبة زيارة الكاتب للجزائر فرصتهم الذهبية للقاء به إشباعا لفضولهم ونقلا لذلك الخيال من عالمهم الافتراضي إلى العالم الواقعي.
أما من حضروا فأغلبهم لم يتمكنوا من الوصول إلى الكاتب ولا أحد منهم اشترى الكتب، عدا طالبة واحدة اشترت مجموعة من رواياته لمطالعتها..
ولعل من محاسن الصدف أن تلك الطالبة هي من قلة المتميزين عندي في الدفعة، فقد تعودت من أول حصة لي مع الطلبة أن ألزمهم على الاجتهاد في الحديث والتواصل داخل القاعة بلغة عربية فصحى، حتى يتعودوا على الأمر باعتبارهم “صحفيو” المستقبل، وأنى لهم التعود على ذلك إذا لم يكن داخل قاعات الدراسة في الجامعة..؟
وأذكر أني طلبت ذلك من الطالبة ذاتها في أول حصة لي مع الفوج، فانطلق لسانها بأسلوب عربي مبين، حتى أني تعجبت منها، وقد أثنيت يومها على سلامة لغتها وسلاسة أسلوبها، دون أن أكون أعرف السر في ذلك التفوق إلى أن جاءت الفرصة فاكتشفت السر..
وخلاصة ما توصلت إليه من استنتاجات يمكن تلخيصها في أن هذا الجيل، جيل مساير لعصره موغل في الشبكات الافتراضيه، يعيش في عوالم افتراضية هي أقرب إلى الخيال منه للواقع..
أساليب حصوله على المعلومة وطرق تواصله، بل ورغباته وميلولاته “المكبسلة” وانسحاب “ثقافة الفاست فود” على كل مناحي حياته، وحبه للجاهز السريع المختصر في كل شيء، يجعله يختلف تمامآ عن طريقتنا نحن في المطالعة والصبر على طول النصوص ومسايرة الأسلوب الواقعي، ومطاوعة وبذل الجهد في الوصول إلى المعلومة..
وهذا الذي يبدو فهمه الكاتب السعودي وتفوق فيه من خلال تسويق إنتاجه بتلك الطريقة البارعة عبر الوسائط الإجتماعية، سواء اتفقنا مع ما انتجه أم لم نتفق..
هذا الوضع في النهاية حسب رأيي يجعل من التطبيع مع “المطالعة التقليدية” بهدف تنمية الملكات اللغوية أمرا في غاية الصعوبة، اللهم إلآ في المراحل الأولى من عمر الطفل..
@ طالع أيضا: إصلاحات قطاع التعليم العالي.. أي جدوى وأي أثر؟
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.