رمى الرئيس بوتفليقة بكرة الإصلاح السياسي الشامل في البلاد كما أسماه في ساحة الأحزاب والقوى السياسية في الجزائر تاركا إياها تتناقض وتتصارع حول التفاصيل تحت هذا العنوان الكبير، فطرحت الكثير من الملفات والموضوعات وتمت مناقشة الكثير من النقاط دون أن يعلم أحد إن كانت فعلا تدخل ضمن اهتمامات رئيس الجمهورية ورؤيته للإصلاحات الشاملة التي ينوي الشروع فيها.
ففي غضون أسبوعين فقط تجلت الخطوط العريضة لاتجاهات الرأي والمواقف داخل الساحة السياسية ، وبرز الاصطفاف بوضوح مثلما بدأ الخطاب يتبلور عند هذا التيار أو ذاك وبدأ الرأي العام يكتشف من هو مع الإصلاح العميق والجذري ومن هو مع الإصلاح المحدود والمحصور ومن هو ضد الإصلاح من حيث المبدأ ، مثلما اتضحت الحلول التي تحظى بالإجماع والموافقة وتلك التي لا يمكن أن يحصل بدونها أي إصلاح ، كما تكشفت الحلول التي يرفضها البعض ويرى فيها خطرا على الجزائر ومستقبلها.
بداية يجب أن نوضح أن رسالة الرئيس بمناسبة عيد النصر في التاسع عشر من مارس الماضي لم تتضمن أكثر من ثلاث كلمات حول “الإصلاح السياسي الشامل” ، حيث عبر الرئيس بوتفليقة عن نيته الذهاب إلى ذلك معطيا ضمنيا إشارة انطلاق النقاش الوطني حول هذا الموضوع دون أن يقول المزيد مفضلا موقع المستمع لصدى مقترحه من خلال الأراء والمواقف مختلف الأطراف ، ومثلما لم يعط تفاصيل حول طبيعة الإصلاح الذي يتحدث عنه فإنه لم يحدد تاريخا معينا للشروع في تطبيق الإصلاحات ولم يمنح مهلة لانتهاء النقاشات والمشاورات التي أقر الوزير الأول أحمد أويحي بأنها فعلا بدأت دون أن يوضح هو الآخر لا مع من ولا حول ماذا جرت هذه المشاورات ، مع الملاحظة أن كل ما يجري الآن من جدل ما يزال عند مستوى توسيع دائرة النقاش وتعميق مساحة الاستشارة وإيصالها على ما يبدو إلى أبعد مدى ممكن بشكل تسقط فيها كل الأقنعة وتظهر كل المواقف وتنجلي مواقع الرافضين والمؤيدين ومن يمسكون العصا من الوسط ، حول مطالب التغيير السياسي في البلاد ، وهذا يؤكد أيضا أن رئيس الجمهورية يريد جس نبض كل الأطراف السياسية داخل النظام وخارجه وكيفية تعاطي كل طرف مع هذه اللافتة الفضفاضة “الإصلاح السياسي الشامل ” الذي تعهد به .
الجدل السياسي الحالي بشأن ملف الإصلاح الواجب تنفيذه حمل بعض الصدمات كما هو الحال بالنسبة إلى ما ورد مثلا على لسان الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي ، أو انكفاء البعض وتراجعه على الانخراط إلى ما لانهاية في النقاش الدائر كما هو حال جبهة القوى الاشتراكية المتوجسة من أن يكون الحزب بثقله وإرثه مجرد كومبارس في مسرحية لم يشارك في تأليفها ولا يعلم من هي أطرافها ،لاسيما وأن هذا الحزب الذي يعد أقدم أحزاب المعارضة يتعامل _ومنذ تأسيسه_ مع النظام من منطلق الشك وبأن هذا النظام متهم حتى تثبت إدانته وليس براءته . فهناك نوع من التشويس والغموض يسود الساحة طالما أن لاشيء صدر عن صاحب المبادرة رغم أنه أثبت جدية مسعاه في الذهاب إلى التغيير لكن دون تفاصيل وإذا ما كان هذا التغيير المنشود سيطال كل شيء طالما أن النقاشات الحالية لم تستثن لا الدستور ولا المجلس التأسيسي ولا مطلب الذهاب إلى انتخابات مبكرة و لا فكرة إقالة الحكومة الحالية، مثلما أن هذا النقاش كشف عن وجود قوى متحفظة وأخرى رافضة للإصلاح بالشكل المطروح من قبل الغالبية على أساس أن الجزائر لا تعاني أزمة سياسية كي تقوم بتغيير كل شيء كما هو حاصل عند الجيران و في محيطنا العربي ، والحجة في ذلك كما يقول أويحي أن الجزائر سبقت كل هؤلاء وأقرت إصلاحات واسعة قبل أكثر من عشرين سنة ، ومثل هذا الكلام يوحي بأن ملف الإصلاح مازال لم يحقق الإجماع حتى داخل السلطة ،فما بالك بالحديث عن مجالاته وحدوده ومواعيده ومضامينه وتفاصيله ،ما يشير إلى العملية التغييرية قد تطول في البلاد أكثر مما يجب وهنا عامل الوقت لن يكون في مصلحة دعاة التغيير الهادئ والسلمي في ظل إكراهات دولية وإقليمية تدفع كلها باتجاه حتمية الإسراع بالعملية بما يلبي طموحات الشعب ويحقق التوافق بين مختلف القوى ،لأن فترة الاستقرار والهدوء الحالية تلعب لمصلحة السلطة فهي تملك وكل الأوراق الرابحة بين يديها بما يمكنها من تأكيد أن الجزائر فعلا ليست كغيرها من البلدان العربية وأن عملية الإصلاح السياسي فيها تتم باتفاق بين النظام ومعارضيه دون ثورة دامية ودون فوضى عارمة ودون فتنة طاحنة ودون تدخل أجنبي مشبوه ،فالجزائر اليوم أمام فرصة تاريخية للانتقال من ديمقراطية البازار والشكليات إلى ديمقراطية حقيقية توفر الحريات وتحميها وترقي حقوق الإنسان وتضمن الممارسة السياسية ، وتسمح بالمشاركة في الحكم على أسس نزيهة وحرة يحترم فيها الجميع قواعد العملية الديمقراطية سلطة ومعارضة وهذا ما يخلق الاستقرار خصوصا وأن هذا الاستقرار جاء بعد دحر الخطر الإرهابي بنسبة كبيرة جدا، زيادة على أن ما تواجهه السلطة حاليا على رأي أحمد أويحي هو غضب اجتماعي تعكسه مظاهر الاحتجاج اليومية وليست دعوات لإسقاط النظام ، وهذه فرصة تاريخية تعطي الوقت لأصحاب القرار كي يطلقوا قطار التغيير بطريقة جادة وفي التوقيت الصحيح ، ويعبروا بالبلد من مرحلة المأساة الوطنية أو الحرب الأهلية على رأي وزير الخارجية مراد مدلسي إلى مرحلة جديدة ، لكن إذا استمر التلكؤ وتقوت بؤر الرفض والمقاومة لكل محاولات الإصلاح داخل النظام وخارجه ولم تسارع السلطات باتجاه إصلاحات استباقية تنزع الفتيل مبكرا فلا أحد يمكن أن يضمن كيف قد تتطور الأمور ،وعليه فإذا صدقت نوايا فإن التغيير يجب أن يبدأ الآن وليس غدا.
Merouane07@yahoo.fr
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.