من منا لم يقرأ، أو يسمع أصوات شخصيات وطنية وتاريخية، وحتى أحزاب ومجتمع المدني، عندما تعالت حناجرها لعقود من الزمن، منادية بوضع "جبهة التحرير الوطني" في متحف التاريخ - وهو مكانها الطبيعي -، باعتبارها إرثا مشتركا لكل الجزائريين بجميع انتماءاتهم السياسية والثقافية وحتى الدينية منها.
حينها صم النظام الجزائري آذانه، ولم يستمع لتلك الصرخات، وراح يستعمل هذا الرمز كجهاز لتزوير الانتخابات واغتصاب السلطة من الشعب، الذي حرر بلاده من ظلم الاستعمار الغاشم، ودفع أكثر من مليون ونصف المليون من الشهداء الأبرار، ليجد نفسه في وجه استعمار من نوع آخر، استعمار حرمه من تحقيق مصيره وحقه في التنعم بحرية كاملة واستقلال غير منقوص، وأصبح يستعمل شعار “جبهة التحرير الوطني” باسم الشرعية الثورية في قمع كل من سولت له نفسه أن يطالب بحقوقه المشروعة.
والأدهى والأمر، أنه لم يعد جزائريو الداخل وحدهم من يتجرعون استبداد هذا الجهاز الذي استولى عليه الفاسدون، بل تعداه ليتذوق من مره جزائريو المهجر، الذين أرغمتهم الظروف أن يعيشوا في وطن غير وطنهم الأم، لكنهم لم يقطعوا الحبل السري، ولم يغيروا انتمائهم للجزائر.
استعمار جديد حرم الشعبمن تحقيق مصيره وحقه في التنعم بحرية كاملة واستقلال غير منقوص، وأصبح يستعمل شعار “جبهة التحرير الوطني” باسم الشرعية الثورية في قمع كل من سولت له نفسه أن يطالب بحقوقه المشروعة..
ومن أنواع هذا الظلم والقمع، التعديل الدستوري الجديد الذي تم من خلاله إقصاء مزدوجي الجنسية من تقلد الوظائف العليا في البلاد، مما استوجب تحرك هذه الشريحة الكبيرة التي تمثل 20 بالمائة من الشعب الجزائري، لتنشئ جمعية سياسية تعنى بالجالية الجزائرية في المهجر، اختير لها اسم مدوي “جبهة التحرير الوطني”، الشيء الذي أربك السلطات الجزائرية، وجعلها تتحرك في كل الاتجاهات، موجهة أصابع الاتهام كالمعتاد لأطراف في الخارج، اتهمتها بالتشويش على قواعد الأفلان داخل الأراضي الفرنسية، حيث فتحت تحقيقا معمقا حول من يقف وراء هذه الحملة.
لكن، وعلى ما يبدو أن هذه التحركات جاءت جد متأخرة، لأن السلطات الفرنسية قد منحت الاعتماد لهذه الجمعية ذات الطابع السياسي، وتم نشره في الجريدة الرسمية مع دخول السنة الجديدة.
لكننا نقولها بكل مرارة وأسف شديدين، أن النظام الجزائري مازال يتعنت، فلم يستوعب الدروس بعد، واختار الهروب إلى الأمام، إذ لم تكفه “حرقة” الشباب الذي اختار شق طريقا في البحر، بحثا عن وطن يأويه أو يأكله الحوت.
نعم، لقد أصبح الشباب الجزائري يبحث له عن وطن في كل مكان، في البحر كما اليابسة، لقد بحث عنه في النشيد الفلسطيني، حينما التقى الفريق الوطني الجزائري وشقيقه الفلسطيني في مقابلة ودية، ألم تكن تلك الصورة التي رسمها المشجعون الجزائريون معبرة بحق عن آلام شباب تائه، هذه الصورة التي مازالت لم تفارق مخيلتي، عندما راح هؤلاء الشباب يرددون النشيد الفلسطيني، الذي حفظوه عن ظهر قلب، وبالمقابل، صفروا للنشيد الوطني الجزائري في مشهد تراجيدي يندى له الجبين، فقد استفزهم مقطع “جبهة التحرير أعطيناك عهدا” وهم يشاهدون بأم أعينهم كيف عبث الفاسدون بهذه الجبهة، وخانوا عهد الشهداء، فاغتاضوا وصبوا جام غضبهم في لقطة استهجان، لسماع هذا النشيد الذي كتبت حروفه بالدماء، وها هم الآن يؤسسون لهذا الحزب العتيد، في فرنسا ليهرب من خلالها حزب التف حوله كل الجزائريين، ليعتمد في “قصر الاليزيه”، فآه وألف آه “لجبهة ” فرط فيها السفهاء.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.