عناوين فرعية
-
إبدأ بالأهم، فأنت غير آمن!
في لحظة من الزمن وفي حركتين مريبتين وموقف غريب ومريب انتهى كل شيء، وانهارت كل الصور الجميلة، وصغر كل شيء في عيني، عدت على جناح السرعة إلى مكتبي وكتبت استقالتي من وزارة الإعلام والثقافة، وقدمتها في حينها، وأصررت عليها إصرارا وقاومت كل محاولات ثنيي عنها..
نُصحت أن أتوجه إلى المجاهد الأسبوعي لأنها مدرسة لتكوين الصحفيين فيها تتعلم معنى الصحافة وتكتسب الخبرة وتخالط الكفاءات.. استقبلني الأستاذ السي محمد السي فضيل في مكتبه وبرفقته الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ مرزاق بقطاش بعد حديث لم أكن حينها أفقه مكنوناته، ولا مقاصده – المهم أنني كنت صادقا في كل ما قلته – طلب مني أن أكتب مقالا وعلى ضوئه سيكون لنا جلسة أخرى يتحدد فيها كل شيء، سألته عم أكتب؟ فأجابني باختصار: “الاختيار جزء من الاختبار”..
من ساحة الأمير عبدالقادر إلى المكتبة الجامعية مباشرة، آويت إلى ركن بعيد ولم أبرحه حتى كتبت مقالين تحليليين أتذكر منهما واحدا فقط، وكان حول اتهامات رونالد ريغن لسوريا بالإرهاب، ثم غادرت مهرولا ولم أنتبه أن الوقت متأخر، فعدت في اليوم الموالي وسلمت المقالين، ووعدني السي فضيل بالنظر في الأمر والرد علي وضرب لي موعدا بعد أيام معدودات.. عدت في اليوم الموعود وجلست في قاعة الانتظار أتحدث مع الحاجب عمي علي المجاهد الطيب رحمه الله وأسكنه جنة الفردوس، ثم تناولت العدد الأخير من مجلة المجاهد أتصفحها ففوجئت بعنوان كبير: “الإرهاب وثقافة الكاوبوي..” استغربت متسائلا: “يا إلهي هذا عنوان مقالي هل نشروه أم سرقوه مني؟”، قبل أن أكتشف أن المقال مقالي وموقع باسمي، انتابتني فرحة عارمة ممزوجة بارتباك كبير..
بدأت العمل ذات يوم من ديسمبر عام ستة وثمانين وتسعمائة وألف.. في أول اجتماع لهيئة التحرير تيقنت أنني في مدرسة حقيقية ومع أناس شيبتهم الصحافة، والسياسة أيضا.. كان السي فضيل السي محمد يبدو هادئا حكيما يدير الحوار بطريقة حضارية يستمع للجميع بأدب واحترام. عندما يتحدث السي فضيل تعرف أنك تستمع لكفاءة نادرة، لقد كان موسوعة ثقافية يمزج في حديثه بين النكتة والمعلومة والأمثال الشعبية، وقصص رائعة من رحلاته وسفرياته في إفريقيا وآسيا، وتجارب عاشها وأحداث شهدها، يستشهد بآيات من القرآن فهو حافظ لكتاب الله، وبأقوال الفلاسفة والسياسيين… مع السي فضيل أنت تتثقف دائما وتتعلم باستمرار.. لقد كان مدرسة ممتعة.
في سبتمبر عام ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين احتضنت الجزائر القمة العربية الخامسة عشرة، التي عرفت بقمة الانتفاضة، وقد كنت مكلفا بتغطيتها رفقة أخي هارون محمد السعيد، في اليوم الأول حضر معنا الأستاذ السي محمد السي فضيل فكان نعم الموجه، ونحن على مائدة الغذاء لاحظ أنني بدأت الأكل بالسلطة أو بالحساء، لا أذكر جيدا، فقال لي ناصحا لا تكرر هذا أبدا، يجب أن تبدأ أولا وقبل كل شيء بالأهم دائما، وأخِّر المهم والأقل أهمية، إبدأ بأهم أَكلة أي الأكلة الأساسية، فلا تدري قد يحدث أمرا ولا تستبعد أن يقرروا في أية لحظة سحبها من الموائد فيذهب أمثالك ضحايا اطمئنانهم.. ضحكت من الملاحظة لكن السي فضيل لم يبد لي أنه يمزح فالتفت إلى الزميل علاء الدين رقيق – رحمه الله – قائلا:”لم يحدث له – مشيرا إلي – أن سُحبت اللقمة من فمه، أو حُرم من مأدبة غداء..” وأكملنا غداءنا بمتعة ولذة لا أظنها تكررت…
في اليوم الأخير نظم وزير الاعلام والثقافة آنذاك المرحوم بإذن الله بشير رويس مأدبة عشاء على شرف الإعلاميين الحاضرين لتغطية قمة الانتفاضة، ومدراء وسائل الإعلام الوطنية، بنادي الصنوبر، وكان السي فضيل كما يقال “شباح السفرة” دون منازع وكانت الموائد المصفوفة تعج بما لذ وطاب من المأكولات والفواكه والمشروبات، فتداعى الناس على الأطباق يملؤون صحونهم، ولحسن حظي أني كنت أقرب إلى أهم أكلة وكانت “كبدة لذيذة” مطهوة بإتقان كبير، فملأت صحني قبل أن تنفد، وتوجهت إلى مائدتنا ووضعته في مكاني وعدت لأقتني ما تبقى من الوجبة الغنية… لكن عندما عدت إلى مائدتنا، وجلست لم أجد صحن “الكبدة”، لقد اختفى ولم أجد له أثرا سألت علاء الدين ألم تر من أخذه أشار لي برأسه مستغربا بالنفي، فبادرني السي فضيل متشفيا: “شفت أنت لا تعمل بالنصيحة. ماذا قلت لك قبل يومين.. لقد جنيت على نفسك وهذا جزاء من لا يعمل بالنصيحة..” أسررتها في نفسي وقلت معه حق وعلاء الدين “ميت بالضحك” كما يقال..
مرت السنون على تلك الحادثة، وعندما التقيت بالمرحوم علاء الدين بعد “أمة” من الفراق استعدنا الذكريات الجميلة مع السي فضيل وكثيرة ما هي، وكان من بينها “طرفة” عشاء قمة الانتفاضة، ليفاجئني علاء قائلا أتدري من أكل “الكبدة يومها” قلت لا والله فقد نسيتها في حينها، قال لي :”أنا والسي فضيل وقد علق السي فضيل حينها – يضيف علاء – قائلا هذا نصرالدين لا فائدة تُرجى منه نصحناه لكنه لا يعمل بالنصيحة سنسديه درسا اليوم”، والتهمناها قبل أن تعود”.. ضحكت كثيرا وقلت له “والله بصحتكم أستحق ذلك فعلا..” طرفة أتذكرها كلما، حرمت من شيء أخطأت فيه التقدير، أو ظن غيري ذلك… أو أقصيت من شيء أسأت فيه التدبير أو خُيِّل لي ذلك.. أو أُقلت من منصب لم أحسن فيه التسيير أو بدا لي ذلك.. وكلما جلست إلى مائدة شهية أيضا.. وأقول لنفسي في كل مرة: “والله لقد قالها السي فضيل الأستاذ الحكيم..”.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.
تعليق 6332
ممتاز ….هدا النوع -القصص الاعلامية الممتعة- التي نحب ان نسمعها عن جيل مضى ، كيف كان يفكر ، وكيف كان يكتب ، ….وحبدا لوتحدثنا يااستاد عن تجربتك في المجاهد الاسبوعي خاصة الفترة 1992-1996 التي قضيتموها في المجاهد وجبهة التحرير حزب معارض ولا اخفيك انني لي مشروع بعنوان الصحافة المعلقة على مشانق الاستئصال في الجزائر 1992-2004 واكاد انتهي من وضع لمساته الاخير بنحو 300 صفحة ….ومعلوماتك في هدا الجانب نتفيدني ….شكر