مما يروى قديما أن أحد القضاة كان ينظر في حكم بين متخاصمين فقام الأول بإهدائه مرآة وقال له: "هذه مرآة يمكنك أن تعدل أمامها هندامك قبل الذهاب لمجلس القضاء"، أما الثاني فأهداه حصانا وقال: "إليك هذا الحصان ليوفر عليك مشقة الطريق في التنقل وحل القضايا"، وعند مجيء يوم الفصل في قضيتهما أخذ صاحب المرآة يذكر القاضي ويقول له: "سيدي القاضي إن الحكم في هذه القضية واضح كالمرآة"، وأخذ يكرر الجملة ذاتها فانزعج القاضي وقال: "لقد رفس الحصان المرآة وكسرها".
إنها إذن حرب الرشاوى فمن يدفع أكثر يكون له الحظ الأكبر، هذه الظاهرة القديمة والمتجددة على الدوام، والتي لم تحدد بزمان أو مكان فقد وجدت عند مختلف الشعوب على مختلف المستويات متخذة عدة أشكال وتسميات فمن الهدية إلى الدهان وملح اليد والقهوة ثم النسبة والعمولة، أو كما يتداول هذه الأيام بين العوام “التشيبة”.
قد يبدو ملف الرشوة متداولا ومستهلكا ولكنه يظل دوما حديث الساعة، كما أنه يبقى شائكا ويحذوه الكثير من التحفظ والسرية فهو فعل يجرمه القانون وكبيرة يعاقب عليها الشرع ولو أن المحامي محمد بن حمو رئيس حزب الكرامة قد أجازها قانونيا وحللها دينيا.
فلا تكاد تخلو مصلحة إدارية وكذا مختلف القطاعات من انتشار الفساد وتغييب الضمائر وتراجع المعاملات النزيهة، فمعظم الذين يكونون من ذوي النفوذ والوظائف العامة صاروا يعتمدون مبدأ النفعية لا الواجب أو فكرة المال يشق طريقا في البحر فلا يتوانون عن الدفع أو القبض لتسريع العمليات وإخفاء العيوب والتغاضي عن النقائص ولو كان ذلك سيضيع حقوقا ويقدم مصالحا على أخرى، وكفى بكل هؤلاء اللعن الذي يلحق بهم لقوله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش”، لأن القانون الوضعي على ما يبدو لا يردعهم بما فيه الكفاية في ظل غياب سياسة صارمة، فحتى رجالته غدوا يخرقونه بتجاوزاتهم ليمدوا في عمر الفساد.
بات بعض الذين يكونون على صلة بشرطي أو قاض أو وكيل جمهورية وغيرهم ممن يعمل بالسلك الأمني أو القضائي يهدد الناس ويظن بنفسه أنه امتلك مقاليد الحكم فيتطاول ويتعالى ويستفيد مما ليس له به حق، لأن من بين هؤلاء من تحولوا إلى آلات ابتزاز، وعوض أن يحموا القانون ويخدموه بصدق وأمانة صاروا معاول الهدم الذي تطيح بمواده وراحوا يستغلون نفوذهم ومناصبهم لجني ثروة منشؤها مال حرام، ضاربين بقسمهم المقدس عرض الحائط ومتجاهلين واجبهم في رعاية الحقوق، إنهم فئة من الذين باعوا ذممهم وسعوا لأكل أموال الناس بالباطل لأنهم يتميزون بالحصانة، لتصبح الرشوة حالة مرضية تحتاج لعلاج.
أما للحصول على خدمات القطاع الصحي.. “ارتش ولا تستحي” هذا الشعار الذي صارت تحمله مختلف المرافق الصحية على مستوى إداراتها سواء مؤسسات استشفائية عمومية أو تسويقية، فمظاهر الاختلاس والسرقة والابتزاز في تسيير أموال الصحة العمومية خلال السنوات الأخيرة ازدادت، ويعبر عن كل هذه التجاوزات باعتبارها مسرح الفساد المفتوح وتحويل المال العام، والوضع مماثل على المستوى الأدنى فالحصول على سرير في المستشفى العام ورغم أنه حق للمواطن إلا أنه بات أيضا يحتاج إلى الدفع ليس تسديدا للتكاليف الرمزية لفترة العلاج إنما هو لتسهيل عملية القبول لدخول المستشفى والحظي بالرعاية، ليصير المستشفى العام إلى عيادة خاصة جدا.
وبهذا تحول القطاع العام إلى ملكية خاصة سواء لتقديم الخدمات أو حتى التسيير حيث يعمل بها أجيال بالتوارث حيث أن المنصب صار ينتقل أبا عن جد ومرات كرد مجاملات أو خدمة مصالح معينة، فهل تعد هذه الخدمات المتبادلة رشوة ؟الجواب سيكون حتما “نعم”، لأن فيها تعد على الحقوق وتقديم مصالح على أخرى وإن لم تكن عينية كدفع المال مباشرة.
إنه بالفعل وضع مزري يجعلنا لا نتقدم أبدا، لأن تمادي الرشوة يعني هلاك المجتمع وتهاوي هياكله، لذا فالعمل قدما لمحاربة هذه الظاهرة المخزية يجب أن يكون على قدم وساق حيث يبقى أول حل ناجع هو تقوية الوازع الديني، وذلك برفع الأصوات من المنابر للتوعية الدينية وتناول هذه القضية بالتحليل والاستشهاد والترهيب من استشرائها والترغيب في تركها، فضلا عن خلق رقابة اجتماعية جماعية فالمسئولية مشتركة بين الجميع وليست محصورة في واجب رجال القانون، ولو أن صرامة العقاب القانوني سيكون رادعا فعالا، ولعل ذلك سيحمي القانون الذي يجب أن يعلنها حربا ضروسا على الرشوة التي طالت حتى أداء الشعائر الدينية فمن سينكر أن هذه الظاهرة مست حتى توزيع جوازات السفر للبقاع المقدسة؟.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.