زاد دي زاد - الخبر مقدس والتعليق حر

ملاحظة: يمكنك استعمال الماركداون في محتوى مقالك.

شروط إرسال مقال:

– النشر في “زاد دي زاد” مجّاني
– أن يكون المقال مِلكا لصاحبه وليس منقولا.
– أن يكون بعيدا عن الشتم والقذف وتصفية الحسابات والطائفية والتحريض.
– الأولوية في النشر للمقالات غير المنشورة سابقا في مواقع أو منصات أخرى.
– الموقع ليس ملزما بنشر كل المقالات التي تصله وليس ملزما بتقديم تبرير على ذلك.

دفء الغربة وصقيع الوطن

دفء الغربة وصقيع الوطن ح.م

عرفت محي الدين اللاذقاني منذ 40 سنة خلت. كنت آنذاك طالبا حالما في ثانوية الكندي، وكان هو شاعرا متسكعا طوّحت به الغربة بعيدا عن بلدته سرمدا، وألقت به في مدينتي جيجل، حيث كانت زوجته تعمل مدرّسة.

وبعد طول فراق أطلّ عليّ محي الدين عام 1999 من برنامجه الجميل ”قناديل في الظلام”، الذي كانت تبثه قناة Ann، ويدعو إليه أهم الشخصيات العربية والعالمية لتصحيح أكاذيب التاريخ العربي.

أحبّ محي الدين شواطئ جيجل، وكان يفضل الجلوس في المقاهي المحاذية للبحر، ويبحر بنظرته الحزينة في الأفق البعيد. وكانت مدينتي جيجل تذكّره باللاذقية.

كلّ شيء تغيّر في اللاذقاني منذ التقينا. فقد ما تبقى من شعره، وخط الشيب سوالفه، وحفرت الأيام والأنواء أخاديدها على وجهه. كلّ شيء تغيّر في محي الدين، إلا صوته ظلّ يشبه رفّة أجنحة النوارس.

أحبّ محي الدين شواطئ جيجل، وكان يفضل الجلوس في المقاهي المحاذية للبحر، ويبحر بنظرته الحزينة في الأفق البعيد. وكانت مدينتي جيجل تذكّره باللاذقية.

كنا نتسكع في شوارع المدينة وشواطئها، وكان يحدّثني عن طلاوة أسلوب التوحيدي وطرافة مؤانساته، وعن إعجابه بانسياب المعاني عند الجاحظ، ويهيم وجدا بعذابات الحلاج وصوفيّته، ويقول الشعر محطّما الأشكال القديمة، ويعشق المسرح الذي لم يكن قد جرّبه بعد.

كلّ شيء تغيّر في اللاذقاني منذ التقينا. فقد ما تبقى من شعره، وخط الشيب سوالفه، وحفرت الأيام والأنواء أخاديدها على وجهه. كلّ شيء تغيّر في محي الدين، إلا صوته ظلّ يشبه رفّة أجنحة النوارس.

في الفراغ الرهيب الذي عاشه بجيجل اختمرت في ذهنه العديد من الأفكار والأحلام والمشاريع، واكتنزت نفسه الكثير من خيبات الأمل والانكسارات، وسقطت أوهام وأقنعة…

افترقنا أنا واللاذقاني، كلّ إلى غايته. وتقاطعت خطوط غربتنا في شرق أوروبا وغربها وفي اسكندينافيا ولم تلتق. سألت عنه في كلّ مكان، والتقيت أصدقاءه في كلّ مكان. بعضهم قال لي إنه جنّ، وآخرون قالوا لي إنه ما زال يقول الشعر، ويعشق المسرح، ويتحدث عن التوحيدي والجاحظ والحلاج ويعتبرهم آباء الحداثة العربية.

كنت أقرأ مقالاته في الشرق الأوسط بعنوان ”طواحين الهواء”. ثم وقعت بين يدي بعض دواوينه مثل ”انتحار أيوب” و”من كان حزينا فليتبعني”، وقيل لي إنه كتب مسرحية بعنوان ”الحمام لا يحب الفودكا”.

ثم اكتشفت محي الدين ناقدا ممتازا في كتبه ”الصورة والخيال في الشعر العربي الحديث”، و”مدخل إلى عوالم الجاحظ والحلاج والتوحيدي”، و”ثلاثية الحلم القرمطي”. واليوم أقرأ بمتعة ما بعدها متعة مقالاته في ”الهدهد”، أول جريدة إلكترونية عربية تصدر بأربع لغات (العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية)..

zoom

كلّ شيء تغيّر في اللاذقاني، إلاّ صوته ظلّ يشبه رفّة أجنحة النوارس.

لم يعد اللاذقاني يؤمن بالأحزاب، وأقلع عن كتابة الشعر السياسي التحريضي. وأصبح يرافع عن حداثة النص مقابل حداثة الزمن عند شعراء السبعينيات، معتبرا بعض قصائد الشعر الجاهلي أكثر حداثة من شعر الخمسينيات والستينيات، وأغضب بصراحته المحيّرة الكثير من أصدقائه وزمرا من النظام السوري وبعض زبانية السلطان. ولم يعد يرى في الرأسمالية وحشا مخيفا، وجرّب منافع الليبرالية، لكنه ما زال يحمل في أقطار نفسه هموم هذه الأمة.

حين كنت أشاهد محي الدين في قناة Ann أتذكره في جيجل، وهو يمشي في شوارعها كالغريب، وأستذكر القصيدة التي كتبها لي بخط يده والتي يقول فيها:

الآن اللاذقاني مقيم في صقيع الغربة بلندن ويحنّ إلى دفء الوطن، وأنا مقيم في صقيع الوطن بعيدا عن دفء الغربة. فهل يتذكّرني اللاذقاني، وهل يذكر بلادة المدن وتفاهتها؟ وهل يتنازل لي عن صقيع غربته مقابل دفء الوطن؟

zoom

تافهة
مدينتكم
وعاجزة
عن
الإنجاب
أعرفها
فكلّ
رجالها
خصيان
ألفوا
التسكع
قرب
أقدام
الموائد
واستكانوا…

أتذكر هذه القصيدة وما زلت أحتفظ بها إلى اليوم. ونسيت أن أسأله آنذاك هل كان يقصد مدينتي أنا جيجل أم بلدته هو سرمدا.

الآن اللاذقاني مقيم في صقيع الغربة بلندن ويحنّ إلى دفء الوطن، وأنا مقيم في صقيع الوطن بعيدا عن دفء الغربة. فهل يتذكّرني اللاذقاني، وهل يذكر بلادة المدن وتفاهتها؟ وهل يتنازل لي عن صقيع غربته مقابل دفء الوطن؟

ما زلت إلى اليوم، يا محي الدين، أسمع صوتك الشبيه برفّة أجنحة النوارس، وكأنه رجع صدى قادم من عوالم الحزن والمنفى وخيبات الأمل، لكنه صوت دافئ كدفء ريش النوارس.

ads-300-250

المقالات المنشورة في هذا الركن لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

1 تعليق

تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.

فضلا.. الرجاء احترام الآداب العامة في الحوار وعدم الخروج عن موضوع النقاش.. شكرا.