''القوة الناعمة" هي عكس"القوة الصلبة" التي تستعمل الخشونة لتحقيق أهدافها كالحروب والنزاعات والضغوطات والتهديد والوعيد.. أما القوة الناعمة فهي تلك "الطاقة" الهادئة التي يرتاح لها الإنسان فتجلبه إليه، كالابتسامة والتحية، والبشاشة، والنصيحة، والمحبة والمودة والحنان.. كل هذه الصفات الحميدة تجعل الإنسان شخصا وقورا وسط مجتمعه، يجب أن يتحلى بها الإنسان الناجح.
أما القوة الناعمة بالنسبة للدول فهي كما صاغها أبوها الروحي جوزيف ناي أستاذ بجامعة هارفارد حيث قال: “بأن الحرب ليست هي القدر الوحيد، بل أن كسب المعارك أيضا يتم بالسلام، هو أهم وأقوى من الحرب”، واصفا قدرة الدول على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع، وكيفية تمكين الدول الحديثة من استخدام الجذب الإيجابي والإقناع لتحقيق التأثير العالمي، بما يتسق مع أهداف السياسة الخارجية للدولة”.
وعلى ضوء هذه الدراسة التي قام بها هذا العالم سنة 1990، أصدرت مؤسسة بورتلاند للاتصالات مؤشر القوة الناعمة العالمي لتصنيف القوة الناعمة لدى 30 دولة قوية، وكما هو معروف فإن الدول العربية والإفريقية غائبة عن التصنيف لعدم امتلاكها وسائل الجذب، حيث تبقى الدول الغربية بطبيعة الحال تتصدر المشهد الدولي في جميع المجالات وهي: المملكة المتحدة، ألمانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، كندا، أستراليا، سويسرا، اليابان، السويد، هولندا.
أما الجزائر وبطبيعة الحال فهي غير مصنفة أصلا، وغير موجودة لا في قائمة مؤشر القوة الناعمة، ولا حتى ضمن المؤشرات الأخرى، كالتعليم والصحة وحرية الإعلام والاستثمار والمال والأعمال… بل صارت الجزائر مع الأسف مضرب مثال سيئ، لما أهدرته من فرص وطاقات مادية كبيرة وبشرية هائلة خلال العشريتين الأخيرتين، التي تسلطت عليها “البوتفليقية” فدمرت كل شيء جميل في الجزائر حتى صار الفساد هو السيد وجواز السفر منبوذ في العالم!؟
لكن دوام الحال من المحال، فجأة نهض الشعب الجزائري ثائرا دون سابق إنذار يوم 22 فبراير 2019 من “نومه العميق” ضد “سحرة” بوتفليقة”، التي كانت تستعمل التخويف كوسيلة مثالية للتحكم فيه، مما جعله يعود صفر اليدين طيلة هذه المرحلة، حتى أنه وجد نفسه خارج كل تصنيف دولي؟؟؟ في الوقت الذي كانت فيه الجزائر في السبعينيات من القرن الماضي تلقب بـ “قبلة الثوار” في المحافل الدولية وكانت مرشحة للانضمام للدول الإقليمية؟
وبفضل ديناميكية هذا الحراك الشعبي السلمي المتواصل، كسر كل قيود الأوهام “الكبريائية” التي كان يروج لها الإعلام الحكومي وبعض القنوات التلفزيونية الموالية إليه، حتى قيل لنا “أننا نحن أحسن من دولة السويد”!، أخذ الحراك زمام الأمور بنفسه مطالبا بإبعاد “البوتفليقية” واختيار قادته ومسؤوليه بعيدا عن التعيينات الفوقية، وتزوير الانتخابات بنسبة 90 %، رغم محاولات الدولة العميقة وبقايا النظام الالتفاف على ثورته مثلما وقع في دول مجاورة.
لقد أبان الحراك الجزائري على “قوته الناعمة” التي كانت وسائل الإعلام المغرضة تخفيها وتنقل كل السلبيات عن الشخصية الجزائرية على أنها “فوضوية” و”خشنة” وغير “متحضرة” وسريعة الانفجار ووووو… فمن بين قوته الناعمة التي أبهر بها العالم وصححت صورته الحقيقية في وقت وجيز حتى أنه رشح لدخول “كتاب قينس” بخروج أكبر مسيرة عالمية سلمية كل أسبوع تقدر بنحو 20 إلى 25 مليون شخص عبر الوطن.
1 – فللجمعة الثالثة عشر(ج13) لم يحتك الحراك بقوات الأمن، ولم يحدث أي تصادم معهم، على العكس توزع عليهم كل مرة الورود والحلوى في مشهد لم تألفه الشعوب العربية.
2 – لم تقع أي انحرافات ولا أي حوادث تصنعها “البلطجية” أثناء المسيرات المليونية عبر ال 48 ولاية.
3 – تنظيف الشوارع مباشرة بعد انتهاء المسيرات من طرف متطوعين في مشهد حضاري راقي.
4 – تبدأ المسيرات الأسبوعية بعد صلاة الجمعة عبر الوطن وتنتهي نصف ساعة قبل صلاة المغرب حسب توقيت كل مدينة جزائرية.
5 – التكفل اجتماعيا بكل من يشارك في المسيرة يقطن بعيدا عن مسكنه.
6 – توزيع المشروبات والمأكولات مجانا على المشاركين في المسيرات.
7 – ترفع الشعارات والمطالب موحدة عبر كافة الوطن مضمونها رحيل كل أفراد “العصابة البوتفليقة” التي نهبت البلاد وتسليم السلطة لممثلي الحراك.
8- توقفت ظاهرة الهجرة السرية نحو أوروبا وقلت اللصوصية بشكل ملحوظ.
كل هذه القوة الناعمة للحراك أو الجزء منها تأتي في “غياب” قيادة الحراك غير المعروفة حتى الآن للتكلم باسمه وتؤطر مسيراته، فصار ينظم نفسه بنفسه لكثرة وعيه وتحرره من سياسة “الاستغباء” التي كانت تقوده نحو المجهول، وإلا كيف ترشح هذه “العصابة غير الدستورية” رئيسا للمرة الخامسة لقيادة البلاد وهو مشلول منذ 7 سنوات؟
وقد عبر لي أحد المثقفين عن الفرق بين ما قبل 22 فبراير تاريخ اندلاع الحراك وبعده؟ فقال لي كالذي كان أعمى فصار بصيرا، متسائلا هل فعلا كنا مخدرين طيلة 20 سنة لهذه الدرجة التي كدنا نتهاوى أمام الأمم؟
لقد أعجب العالم بالتنظيم والشجاعة التي تحلى بها الشعب الجزائري في هذا الحراك الذي كانت كلمة سره سلمية.. سلمية.. فصار الجزائري محل اهتمام عالمي عبر كبريات الفضائيات الإعلامية وحتى محل نقاش أكاديمي في مراكز البحث والإستراتيجية.
إن الشعب الجزائري بهذه الهبة الشعبية السلمية واسترجاع الثقة بالنفس مرشح في غضون العشر سنوات القادمة أن يلتحق بالدول الإقليمية، في حالة عدم التفاف الدولة العميقة على ثورته التي ما يزال شعارها سلمية.. سلمية.. منذ اندلاعها، وهو ما يعد سر نجاحها.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.