الجزائريون الذين اتخذوا رنّة الحراك وزنًا، وعزفوا نغمة التغيير لحنا، يُدركون أنّهم ركبوا سفينة جديدة، لكن بخشب هشّ ومتآكل، عليه ثقوب من كل جانب؛ قد يُخرقها في أيّ لحظة ليُغرق أهلها، قبل أن تبلغ برّ الأمان، فأين المفرّ؟!
منظومة التسيير في هذا البلد متهالكة منذ عقود من الزمن، والشعب فقد الأمل في أن يعيش في استقرار وطمأنينة بعد أن تجرّع كلّ العذابات والخيبات، وارتوى من كأس الويلات، حتى صار المستقبل لديه أكثر ضبابية من فرط الضغوط الجاثمة على صدره.
في الجبال الشّاهقات، وفي السّهول والمُروج والهضاب والمنحدرات، وحتّى في الحواضر الكبرى؛ فأينما تولي وجهك، ثمة قصص بُؤس اجتماعي تعيش في الظل، قريبة من أعين المسؤولين، بعيدة عن ضمائرهم، حتى صار المسحوقون اجتماعيا في هذا البلد مجرّد أرقام في سجلات الفقر والفاقة والغبن، فأيّ مكانة للإنسان الجزائري الذي يشعر بالاغتراب في وطنه؟؛ لا هو بالقريب المُطمئن ولا بالبعيد المنسي، يعيش حيرة قاتلة، عالق بمنتصف الأشياء، يئن تحت وطأة ثالوث اليأس، الإحباط والتهميش.
كيف لا يدُبُّ اليأس في نفوس مواطنين انتظروا سكناتهم لعقود من الزمن ليدخلوها آمنين مطمئنين، لكنهم لم يبلغوا المراد ووافتهم المنية قبل تحقيق الحلم؟، وهناك مشاريع حطّمت أرقاما قياسية في السُبات، فنامت لعقود من الزمن وتحطّمت معها أحلام المئات، بل الآلاف من الحالمين بمأوى يحفظ كرامتهم، فضلا عن سماسرة العقار، الذين احتالوا ونصبوا على العشرات ممن أرهقتهم أزمة السكن، فنهبوا أموالهم مقابل شقق وهمية لم تشيّد على أرض الواقع.
كيف لا يتملّكنا الخوف ولا نفقد الأمل في بلد ارتفعت فيه معدّلات الطلاق، مخلّفة وراءاها آلاف الأطفال، الذين تضرّروا نفسيا واجتماعيا من فك رابطة مقدّسة اسمها الزواج؟؛ هؤلاء الأطفال هم مشاريع مواطنين كان بالإمكان أن نصنع منهم المهندس والطبيب والطيار والقاضي والمحامي…، لكن تحطّموا اجتماعيا ونفسيا في غياب أي متابعة لمثل هذه الحالات، فوقعوا في مصيدة مجتمع لا يرحم، علّمهم شتى فنون الانحراف والإجرام.
لا يُمكن بناء دولة بشعب متهالك نفسيا وعقليا ومنهار صحيا، مستحيل أن نؤسس لجمهورية جديدة بساكنة فقدت الثقة في كل شيء، حتى في نفسها، كيف نحقق الإقلاع الاقتصادي والسياحي والتنموي في بلد يحصي أكثر من نصف مليون مجنون بحسب الإحصائيات الرسمية، فضلا عن جحافل اليائسين والتائهين والمضطربين نفسيا، ومن هم على وشك الالتحاق بصفوف المختلين عقليا؟!.
الحقيقة، هي أن المسؤولين في بلادنا استثمروا في كل شيء إلا في الإنسان وما أدراك ما الإنسان، الذي إذا أعددته أعدت بلدا متراصا ومتماسكا يقف صامدا أمام الأزمات ولا يتزعزع أمام النكبات. لكن لمن تقرأ زابورك يا داوود؟ فحجم الإحباط والتذمر والاهتلاك النفسي بلغ مبلغا لدى السواد الأعظم من الجزائريين، في ما تحوّل آخرون إلى مواطنين برتبة مجانين.!
الممارسات الجنونية؛ في الطرقات، في البحار والوديان والغابات، تؤكد بلا ما يدعو إلى الشك أن هذا الشعب فقد بوصلة الوعي والإدراك، وتاه بين ثنايا اليأس والإحباط ليجد في الحبوب المهلوسة والمخدرات اللينة والصّلبة والخمور، ملاذا يهرب إليه لينسى ولو للحظات واقعه المرير.
أنهار من الدّم تتدفق يوميا عبر طرقاتنا، لتكتب فصولا مريرة لعائلات فقدت عزيزا وأخرى فجعت في أفرادها كلهم، في حين ما زال “شومخير” وإخوانه يُمارسون قيادتهم المتهورة، محوّلين الطرقات إلى مضامير للسرعة الفائقة، تحاكي سباقات “الفورميلا وان”، لتنتهي هذه الاستعراضات الجنونية بمآسِ. كيف لشاب يُضايق آخر في عاصمة البلد، ويتسبب في انقلاب سيارته لا لشيء، إلاّ لأنه لم يفسح له المجال ليمارس سياقته المجنونة.؟ !
قد يقول قائل، إن الطرقات المختنقة من فرط اكتظاظ المركبات أفقدت الجزائريين صوابهم، لكن هذا ليس مبرّرا، لأن تُزهق أرواح بريئة، ذنبها أنّها تواجدت في الزمن الخطأ والمكان الخطأ. للأسف، أصبحت النفس الجزائرية رخيصة، تنتشل جثثا هامدة من الوديان والطرقات وبرك الماء وتتلقفها شباك الصيادين في أعماق البحر، لتصطاد الحالمين بحياة أفضل في الجنة الموعودة أوروبا.
نحن نُذيق بعضنا البعض جميع صنوف العذابات ونمعن في التنكيل بأنفسنا وبغيرنا، متطرفون في كل شيء في الحبّ كما في الكره، في الأفراح كما في الأقراح، نسوق بجنون ونناصر أنديتنا الرياضية المفضلة بعنف، ننتقد بالسب والشتم ونتعارك جسديا ولا نتبارز فكريا بالحجة والمنطق، الاختلاف عندنا مصيبة، يتلون بكل مظاهر الانحطاط الإنساني والحضاري؛ من جهوية وعنصرية وعصبية قبلية مقيتة استشرف ابن خلدون منذ قرون خلت في مقدمته الشهيرة آثارها المدمرة على المجتمع؛ يكفي أن نختلف في قضية ما حتى نفجر معارك وهمية في العالمين: الافتراضي والواقعي، وينبري لها هواة الصيد في المياه الآسنة، لينفخوا في كير الفتنة النتنة، ويوقدوا النار في أفران الحقد.
باختصار، نحن مجتمع مُتهلهل فكريا واجتماعيا وأخلاقيا، يتوجس من كل شيء ويشك في كلّ شيء، ابتلي بعديد الأمراض النفسية التي تؤهله للدخول إلى مصحة نفسية ليبرأ من هذه الأسقام الفتاكة، في ظل استقالة الأسرة والمدرسة عن أداء أدوارهما التربوية والاجتماعية والحضارية، وهشاشة الخطاب الديني في المسجد، الذي بقي حبيس فرائض الوضوء ونواقضه، معبّرا بوضوح عن مدى الانفصام بينه وبين ما يدور خارج أسوار المسجد من آثام وموبقات باتت تهدّد تماسك المجتمع. يحدث هذا في الوقت، الذي يُمارس فيه آخرون تديّنا مزيفا، منصبين أنفسهم أوصياء على الناس باسم الدين، وكأنهم يملكون صكوك الغفران التي تدخل هذا الجنة، وتقذف بذاك في جهنم وبئس المصير!!.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.
تعليق 7310
تشكر يا سيادة الكاتب على مقالك الرائع ، الذي يهز النفوس و القلوب و العقول و الضمائر ، حتى ولو كانت كجلمود صخر … ولكن كل هذا الجحيم الذي نحياه ونعيشه سببه الوحيد و الأوحد هي الديمقراطية التي لا تنمو ولا تزدهر إلا في مثل هذه الأوضاع الجحيمية . الديمقراطية التي قلبت نواميس الحياة رأسا على عقب ، وجعلت الرذائل فضائل و الفضائل رذائل ، وسمحت للجيف أن تعلو سطح المياه ، و جعلت النفائس ترسب في قاع البحار . وما الوضع المتعفن الذي نعيشه إلا بداية من بدايات الديمقراطية ، والآتي سيكون أسوء وأفظع و أبشع مما نحن عليه الآن. فالديمقراطية ترفع من شأن الشواذ ، و تزيل و تبيد و تفني كل مفيد أصيل. وصدق المثل القائل : يداك أوكتا وفوك نفخ . والسلام على كل ذي لب وعقل و ضمير حيّ.