زاد دي زاد - الخبر مقدس والتعليق حر

ملاحظة: يمكنك استعمال الماركداون في محتوى مقالك.

شروط إرسال مقال:

– النشر في “زاد دي زاد” مجّاني
– أن يكون المقال مِلكا لصاحبه وليس منقولا.
– أن يكون بعيدا عن الشتم والقذف وتصفية الحسابات والطائفية والتحريض.
– الأولوية في النشر للمقالات غير المنشورة سابقا في مواقع أو منصات أخرى.
– الموقع ليس ملزما بنشر كل المقالات التي تصله وليس ملزما بتقديم تبرير على ذلك.

بين النظام والحراك.. الجزائر قبل الجميع!

فيسبوك القراءة من المصدر
بين النظام والحراك.. الجزائر قبل الجميع! ح.م

لا أحتاج في هذا المقال لكتابة مقدّمة طويلة تضع القارئ في سياق الأحداث الي تشهدها الجزائر، لأنني سأبدأ من حيث ينبغي أن أبدأ: من النهاية. وذلك يعني -في نظري على الأقل- أن الجزائر ليست بخير.

السلطة في الجزائر، وفي كل بلد، هي من تملك الترسانة الأمنية والتشريعية والإعلامية، وهي بذلك مسؤولة مسؤولية مباشرة عن توفير مقومات الحياة السياسية الصحية التي تضم أبناء الوطن الواحد، مهما اختلفت مشاربهم السياسية والفكرية..

بعد سنتين وثلاثة أشهر من بداية الحراك ذات 22 فبراير من العام 2019، ذهب الرئيس المُستقيل -بطعم الخَلع- عبد العزيز بوتفليقة وأدخل ثُلة من مُقربيه السجن، ثم نُظمت انتخابات جديدة اعتلى على إثرها عبد المجيد تبون سدّة الحكم، لكن ثمة إحساس عميق داخل البلد بأن ما حدث لم يكن سوى عملية تجميلية غير النظام فيها واجهته، منحنيا لعاصفة مطالبة بالتغيير، دون تغيير جوهره.

لم يتغيّر أسلوب عمل النظام، وها هي أذرعه الإعلامية (قنوات حكومية وأخرى “خاصة” وصحف لا قوام لوجودها إلا بإشهار الدولة) تمارس نفس الأساليب في تقديم قراءة منحازة -تصل حد التضليل- لما يحدث في أرض الواقع، بل وصل الأمر إلى اعتماد أساليب لا أخلاقية من التشهير بالمخالفين ووصم المُطالبين بالتغيير بأقبح النعوت من الارتزاق والاتهام بالعمالة للأجنبي وسلب صفة الوطنية عنهم، دون توفير مساحة لهم كي يُدافعوا عن أنفسهم ويوضحوا مواقفهم مما يُكال لهم من التهم.

عُقدت للحراك مُحاكمة إعلامية، حُكم عليه فيها غيابيا، حُكما غير قابل للنقض ولا الاستئناف. ثم بدأ التضييق عليه إلى أن وصل الحد إلى تراجعه في مناطق كثيرة، لاسيما العاصمة، بفعل التضييق القانوني والأمني.

استهللتُ هذا المقال بتوجيه انتقاد للنظام، لأؤكد على شيء أساسي: السلطة في الجزائر، وفي كل بلد، هي من تملك الترسانة الأمنية والتشريعية والإعلامية، وهي بذلك مسؤولة مسؤولية مباشرة عن توفير مقومات الحياة السياسية الصحية التي تضم أبناء الوطن الواحد، مهما اختلفت مشاربهم السياسية والفكرية.

أصبح الحوار اليوم أكثر من ضرورة.. إنه جرس الإنذار الأخير قبل وقوع الكارثة. حوار تشارك فيه كل الأطياف، وعلى السلطة أن تبذل فيه من الجهد أضعاف ما يبذله خصومها، لأن دفة القيادة بيدها، وعليها أن تكون مظلة جامعة لا طرفا في النزاع..

وإذا كانت غلطة الشاطر بألف و”زلّة العالِم تُهلك العالَم” (كما ورد في الأمثال والآثار)، فإن غلطة النظام قد تعصف بوحدة البلد وترابط أبنائه، إذا رضي لنفسه بأن يكون طرفا همه البقاء، ولو على أنقاض البلد، بدل أن يكون المظلة التي يستظل بها أبناؤه جميعا، حيث لا فضل لمُوال على مُعارض إلا بالالتزام بالقانون ونفع الناس.

في مقابل ذلك، لن يكون من الإنصاف تحميل النظام المسؤولية الكاملة عن الانزلاق الذي حصل، لأن جزءا، ولو ضئيلا منه، يتحمله بعض المنتسبين للحراك، والذين ما فتئوا يرفعون سقف توقعاتهم النضالية ملوحين بسيف الشارع، واقفين عقبة دون أي مُحاولات لجسر الهوة بين النظام وخصومه، بخطاب يُقصي كل رأي غير راديكالي، أو يريد أن يصل مع السلطة لنقطة التقاء، ولو كان عليه أن يقطع ألف ميل مقابل كل ميل تقطعه السلطة التي نجحت في فرض إيقاعها ومنطقها على منطق الحراك، حيث علا النفس المُتطرف الرافض لأي حل وسط، دون أن يملك القُدرة (قولا وفعلا) على أكثر من “لائه” التي أشهرها في وجه النظام.

ضيّع الحراك فرصة الانتخابات الرئاسية والعمل على استغلال فرصة ذهبية تمكنه من تقديم مرشحين يُقارعون السلطة التي أضحت تفوز بالانتخابات وتفرض أجندتها بسبب إحجام الناس على الانتخاب ويأسهم (وتيئيسهم) من أي تغيير يأتي به الصندوق.

بدا الجميع متوجسا من الجميع، إذ كيف يمكن لعلماني (مع التجوّز في المصطلح) السماح لإسلامي بركوب الحراك والإمساك بزمام دولة قد يحوّلها إلى دولة “دينية ثيوقراطية” تناقض ما ناضل من أجله؟ وكيف لإسلامي (مع التجوّز في المصطلح) أن يسمح لعلماني بركوب الحراك والإمساك بزمام دولة يُفترض أن يكون الإسلام عمادها إلى دولة لا دين لها، تُبيح كل ما في ذهنه من “المنكرات” و”المُحرمات”؟

ثم ضيّع فرصة تبنّي مبادرات مُختلفة تحت مظلته، لأن أبناءه غير المتوافقين فكريا وسياسيا، يركزون على ما يفرقّهم (إسلاميين بأطيافهم وعلمانيين بأطيافهم) أكثر من التركيز على ما يُوحّدهم، وهو بناء دولة مؤسسات يعيش فيها الجميع تحت سقف القانون والحرية.

بدا الجميع متوجسا من الجميع، إذ كيف يمكن لعلماني (مع التجوّز في المصطلح) السماح لإسلامي بركوب الحراك والإمساك بزمام دولة قد يحوّلها إلى دولة “دينية ثيوقراطية” تناقض ما ناضل من أجله؟ وكيف لإسلامي (مع التجوّز في المصطلح) أن يسمح لعلماني بركوب الحراك والإمساك بزمام دولة يُفترض أن يكون الإسلام عمادها إلى دولة لا دين لها، تُبيح كل ما في ذهنه من “المنكرات” و”المُحرمات”.

نتج عن ذلك مفارقة غريبة: الأطراف التي اجتمعت على المطالبة بإسقاط النظام أضحت تعتقد في قرارة نفسها أن هذا النظام نفسه هو الضامن لبقائها، ولو بأظافر مقلّمة.

النظام، بواجهته المُحافظة (المنصوص عليها دستوريا والتي يُمارسها كسلوك كلما ارتأى ذلك) يلتقي مع الإسلاميين في “حماية” الثوابت الدينية والهوية اللغوية، فهو لذلك أخف الضررين بالنسبة للإسلامي. كما أن النظام بتشريعاته القانونية التي ترفع شعار الحريات والديمقراطية يلتقي مع العلمانيين في منع تغوّل الإسلام السياسي وتحجيمه، وتأمين هامش حرية ستصبح معدومة إذا ما مسك الإسلاميون بدفة قيادة البلاد.

الأطراف التي اجتمعت على المطالبة بإسقاط النظام أضحت تعتقد في قرارة نفسها أن هذا النظام نفسه هو الضامن لبقائها، ولو بأظافر مقلّمة..

مع ذلك، دخلت البلاد حالة استقطاب حاد، وانتشرت فيها الثنائيات المُدمّرة لتلاحم أبنائها: إسلامي/علماني بما تتضمنه من مفاهيم (مؤمن/كافر) أو (رجعي ظلامي/تنويري تقدّمي)، موال/مُعارض بما تتضمنه من مفاهيم (وطني/خائن) عن البعض، و(شيّات جبان/وطني شجاع)، وامتد الأمر إلى التراشق الجهوي والجغرافي (العرب/الأمازيغ) و(الشمال/الجنوب). ثم طُبعت كل هذه الثنائيات المُدمّرة بطابع (أحرار/عبيد) التي يستغلها كل طرف لصالحه.

ماذا بعد كل هذا السرد؟

منذ بداية الحراك إلى الآن، أي بعد عامين وثلاثة أشهر، حدثت متغيرات كثيرة على المستوى الداخلي والخارجي: النظام انحنى أمام عاصفة الحراك الأولى وفرض أجندته السياسية أولا، وهو ماض في فرض أجندته الأمنية ثانيا، ولا أدل على ذلك من تأطير المسيرات بأطر قانونية وأمنية تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل تجاوزها دون حصول صدام يدفع الدولة لمزيد من القمع، والمعارضة الشعبية لمزيد من التطرف.

أما خارجيا، فقد تغيرت معطيات كثيرة جيوسياسية بفعل إعادة ترتيب الأوراق عقب فشل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الظفر بعهدة ثانية، وهو الذي نجح في تقريب الكيان الإسرائيلي من كثير من الدول العربية (اتفاقيات أبراهام)، حتى أضحت إسرائيل تلقي بظلالها على حدودنا الغربية، في حين تعصف بنا التقلبات من كل جهة: تونس الغارقة في أزمة دولة كبيرة إذ أن مؤسساتها السياسية (الديمقراطية) تضع المتاريس لبعضها البعض، فلا تتقدم خطوة واحدة.

وفي ليبيا، يُحاول الفرقاء لملمة شتاتهم والخروج من حرب مدمّرة ساهمت وتساهم فيها القوى العالمية تحت ذرائع مختلفة. أما جنوبا: مالي والنيجر، فالانقلابات وغياب الاستقرار والأمن وتغوّل الجماعات المسلحة وإصرار فرنسا على تحويل الساحل لمنطقة استنزاف وحرب تحت ذريعة مواجهة تنظيمي الدولة الإسلامية والقاعدة، وامتداد الأخطبوط الصيني في العمق الإفريقي، والروسي في البحر المتوسط (بشكل رسمي في سوريا وغير رسمي في ليبيا)، والامتداد التركي في منطقة شرق المتوسط والتهاب الصراعات القديمة (صراعات ما قبل وبعد الحربين العالميتين) كل ذلك أضحى يشكّل عامل تهديد كبير ليس لاستقرار الجزائر فحسب، بل لوجودها واحدة موحّدة من الأساس.

رغم أن نضال الحرية ودولة القانون مُقدّس، إلا أن آليات النضال تحتاج بعض المراجعة والنقد الذاتي، وإعادة تحديد الأولويات التي تجعل معركة التغيير آمنة بشكل لا يهدد وحدة البلاد أو وجودها من جهة، ولا يتماهى مع التدخل الأجنبي والاستقواء بالشيطان لمواجهة الخصوم السياسيين..

ما العمل إذن؟ رغم أن نضال الحرية ودولة القانون مُقدّس، إلا أن آليات النضال تحتاج بعض المراجعة والنقد الذاتي، وإعادة تحديد الأولويات التي تجعل معركة التغيير آمنة بشكل لا يهدد وحدة البلاد أو وجودها من جهة، ولا تتماهى مع التدخل الأجنبي والاستقواء بالشيطان لمواجهة الخصوم السياسيين.

نحتاج إلى مقاربات نضالية جديدة تسعى لتقديم بدائل واقعية، وفق القانون، واستيعاب مختلف الرؤى والتقديرات التي تختلف حتما من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إذ لا يمكن القيام بتغيير سياسي دون أدوات سياسية. لا نملك عصا موسى أو خاتم سليمان كي نسعى لتغيير سياسي دون اعتماد آليات سياسية.

لا قدرية في معركة السياسة وبناء الدولة، ولهذا ينبغي على الحراك أن ينضج ويتحول من طفل رافض ناقم يصرخ كي يُمنح لعبة أو طعاما، إلى شاب راشد يُدرك أن الوصول إلى الأهداف يتطلب العمل، وليس الصراخ وقول “لا” فقط.

كما أن النضال يتطلب نفسا طويلا لأنه يهدف إلى تغيير ذهنية المجتمع كي يصبح أكثر قابلية للتعايش وقبول الاختلاف واحترام القانون، وذلك “جهاد ثقافي” جوهري لن يقود إلى تغيير سريع بين عشية أو ضحاها، ولكنه يحتاج صبرا واجتهادا كبيرين.

الثقافة والمعرفة كفيلتان بتغيير البنى التحتية لنفسية الفرد وسلوكه، وهذا ما نحتاجه، وأقتبس هنا من فرانز فانون الذي قال إن هدف المثقف الوطني لا يمكن أن يكون ببساطة استبدال الشرطي الأبيض بصنوه الوطني، بل “خلق أرواح جديدة” (مستعيرا عبارة إيميه سيزار).

غير أن الجهد الذي ينبغي على النخب السياسية والفكرية بذله يبقى منقوصا ما لم تتحمل السلطة مسؤوليتها كاملة في إدارة البلد بكفاءة، ووفق القانون، دون تعسف وانتقام من المُخالفين في الرأي.

لا قدرية في معركة السياسة وبناء الدولة، ولهذا ينبغي على الحراك أن ينضج ويتحول من طفل رافض ناقم يصرخ كي يُمنح لعبة أو طعاما، إلى شاب راشد يُدرك أن الوصول إلى الأهداف يتطلب العمل، وليس الصراخ وقول “لا” فقط..

الدولة ليست مؤسسة خيرية، لكن القائمين عليها لديهم مسؤوليات سياسية وأخلاقية وتاريخية، فالنظام (بكل مؤسساته) مسؤول عن ترسيخ الحريات التي يكفلها الدستور أولا، ومسؤول عن توفير الحياة الكريمة لأبناء الوطن، ليس وفق أسس ريعية ولكن وفق تسيير راشد يوفر الأرضية التشريعية والاقتصادية من أجل تحرير طاقات الجزائريين وتمكينهم من اقتناص الفرص في عالم جديد أوشك أن يصبح فيه اقتصاد الطاقة التقليدية (نفط/غاز) في الهامش بعد أن احتل المركز لعقود طويلة.

كما أن النظام مسؤول عن خلق بيئة سياسية صحية، لا مكان فيها للتخوين واللعب على أوتار الجهوية والطائفية، وإلا سنشهد ما شهدته أمم قبلنا: احتراب سياسي ينتهي بحرب أهلية تعصف بوجود البلد، لا قدّر الله.

أصبح الحوار اليوم أكثر من ضرورة.. إنه جرس الإنذار الأخير قبل وقوع الكارثة. حوار تشارك فيه كل الأطياف، وعلى السلطة أن تبذل فيه من الجهد أضعاف ما يبذله خصومها، لأن دفة القيادة بيدها، وعليها أن تكون مظلة جامعة لا طرفا في النزاع.

الثقافة والمعرفة كفيلتان بتغيير البنى التحتية لنفسية الفرد وسلوكه، وهذا ما نحتاجه، وأقتبس هنا من فرانز فانون الذي قال إن هدف المثقف الوطني لا يمكن أن يكون ببساطة استبدال الشرطي الأبيض بصنوه الوطني، بل “خلق أرواح جديدة”..

الحفاظ على الجزائر مسؤولية الجميع: نظامَ حكم، ومعارضةً ناطقة، أو أغلبيةً صامتة. لا مكان للنعرات وخطاب التخوين، ولا مكان للاعتقال التعسفي ومصادرة حريات الناس والانتقام منهم، ولا مكان لانحياز الدولة إلى طائفة ضد أخرى، لأنها مسؤولة عن الجميع، ولا مكان لمواجهة الرأي والفكرة بالسلاح والسجن.

لن تبنى الجزائر بمنطق الثنائيات المتصارعة، بل بمنطق قانون جامع لأبناء الوطن، يحترم اختلافاتهم، ويكفل حقوقهم، ولا ينحاز لأحد ضد أحد. إذا اقتنعنا بذلك جميعا، سلطة وموالاة ومعارضة، يمكننا أن نخطو للأمام خطوات في معركة الحفاظ على أعز ما حبانا الله به: الجزائر.

ads-300-250

المقالات المنشورة في هذا الركن لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

كن أوّل من يتفاعل

تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.

فضلا.. الرجاء احترام الآداب العامة في الحوار وعدم الخروج عن موضوع النقاش.. شكرا.