لم تشهد العلاقات الفرنسية الجزائرية فترة أفضل وعلى أمتن ولا أزهى، وعلى جميع الأصعدة والمستويات كتلك التي شهدتها إبان فترة حكم بوتفليقة، والذي يعتبر من أشد الرؤساء في البلاد تأثراً بالنمط السِّياسي الفرنسي، في الحكم وحتى في طريقة إلقاء الخطابات الشعبوية الرنانة، أو استعمال اللغة الفرنسية في معظم لقاءاته الصحفية مع وسائل الإعلام الأجنبية، بل حتى عند إلقائه لخطبه داخل الوطن يكثر من استعمال لغة المستعمر في وطن، يضم بين جنباته حوالي 40 مليون جزائري يفهمون العربية، واللغة العامية في معظمهم جيداً، وكذلك فإنَّ هذا الرئيس الذي صوره لنا البعض بأنه مغوار وفارس من بني ذبيان، لا يشق له غبار كما تقول العرب، والذي ألقى خطاباً الشهير بلغة موليير، وفولتير وفيكتور هيغو من على منبر البرلمان الفرنسي، ولغة المستعمر القديم، وفي بداية عهدته الرئاسية الأولى.
بينما لم يلقى خطابا سياسياً في برلمان بلد، هو رئيسه إلاَّ في عهدته الثانية سنة 2014م، عندما تمَّ تكريم رئيس البرلمان السَّابق المجاهد الرمز رابح بيطاط رحمه الله تعالى، بدعوى أن الانتخابات التي على أساسها جاء هذا البرلمان هي مزورة لأن حزب الأرندي حصد أغلبية المقاعد البرلمانية في حينه، لم يكتف بوتفليقة بذلك بل لم يكلف نفسه حتىَّ، عناء إجراء حديث بالغة العربية لأية وسيلة إعلامية جزائرية مرئية أو مكتوبة وجها لوجه، بل كان يتم ذلك عن طريق مراسلات وفاكسات وبيانات رئاسية تبعث إليها، فيما صال وجال في الإعلام العربي والغربي وأشبع صحفييه مقابلات حصرية وهدايا ثمينة، من أجل تجميل صورة سنوات حكمه الأغبر.
كيف تريدون من عاقل يمتلك ذرة من العقل والحكمة والمنطق، أن يصدق أن بوتفليقة يعادي فرنسا، وكل من هو على اطلاع على أبجديات الممارسة السّياسية، أو درس علوم العلاقات الدولية، وكيف تبنى الدول علاقاتها المصلحية سواء السِّياسية أو العسكرية، أو الاقتصادية أو الثقافية أو الجيواستراتيجية، يعلم بأن أهم العلاقات التي تقيمها الدول بعد العلاقات الدبلوماسية والعسكرية هي العلاقات التجارية والاقتصادية، وبأنَّ هناك قاعدة في علم المنطق السّياسي العام تقول: بأن الدولة كلما كانت صديقة لسُّلطة الحاكمة، كانت مقربة منها اقتصادياً أكثر، وهذا بالضبط ما أكد عليه السَّيد لوران فابيوس الذي كان يشغل في تلك الفترة وزير خارجية فرنسا الاستدمارية بتاريخ 4 يونيو 2014 م، عندما أكد بأن فرنسا تريد أن تبقى الشريك الاقتصادي الأول للجزائر، وذلك عندما زار بلاد الشهداء، رفقة وفد هام من رجال الأعمال الفرنسيين، وذلك بحثاً عن فرص استثمارية تسيل لعاب قصر فرساي في باريس، إثر لقائه بالسَّيد عبد السَّلام بوشوارب، والذي شغل وزير الصناعة والمناجم في الفترة الممتدة من 29 أفريل 2014م، في عهد حكومة عبد المالك سلال إلى غاية 25 ماي 2017م، أين؟ أنهى مهامه السَّيد عبد المجيد تبون الذي خلف عبد المالك سلال في ذاك المنصب الحكومي الرفيع.
وجدير بالذكر أن الصادرات الفرنسية باتجاه الجزائر بلغت رقم أعمال يقدر بحوالي 6.52 مليار دولار سنة 2013م، لتأتي في المرتبة الثانية، بعد الصين التي احتلت المرتبة الأولى تلك السنة بواقع 6.82 مليار دولار أمريكي، فيما احتلت ولا تزال الشركات الفرنسية حصة الأسد في سوق الاستثمار الوطني خارج قطاع الغاز والنفط.
وحسب ما ذكره السَّيد عبد الكريم منصوري، وذلك باعتباره المدير العام للوكالة الوطنية لتطوير الاستثمار، وهذا ما أشارت إليه العديد من الصحف الوطنية بتاريخ 6-12-2017م، فإن فرنسا تعتبر الدولة الأولى التي لها أكبر عدد ممكن من المشاريع الاستثمارية في بلادنا، وذلك بواقع 169 مشروعاً استثمارياً، وذلك منذ سنة 2002م إلى غاية سنة 2016م، ورصدت فرنسا الاستعمارية مبالغ مالية هامة لتمويل تلك المشاريع، تقدر بحوالي 364 مليار دينار، ومن القواعد الاقتصادية والبروتوكولات المالية المتعارف عليها دولياً، بأن الدولة التي تحظى بالرعاية الاقتصادية الأولى، يكون لها نفوذ مالي واقتصادي وسياسي وازن داخل منظومة السلطة السِّياسية الحاكمة.
هذا في الشقِّ الاقتصادي، أما في الجانب السِّياسي، فالرئيس بوتفليقة التي ارتكبت فرنسا في بلاده من الجرائم المروعة ما يندى له جبين الإنسانية جمعاء طيلة 132 سنة من الاحتلال الاستيطاني الظالم، وكانت تحرق قبائل بأكملها وهم أحياء في المغارات، لا يثق إلاَّ في مستشفيات فرنسا وأطبائها، والدليل أن الكادر الطبي المشرف عليه كله فرنسي تقريباً، فهو كان ولا يزال يتلقى علاجه في مستشفى فال دوغراس العسكري، والذي في قانونه الداخلي ومن أراد الاطلاع عليه فهو متاح في المواقع الفرنسية، لا يمكن لأحد دخوله وخاصة إذا كان أجنبياً، إلا إذا قدم خدمات جليلة وسامية للدولة الفرنسية، فيما الرئيس الرمز البطل هواري بومدين رحمه الله تعالى عليه وعلى أرواح رفقائه الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين، عندما طلب منه أطباؤه التوجه إلى فرنسا، التي تمتلك علاجاً أكيداً لمرضه الخبيث، بعد أن عجز أطباء الاتحاد السوفيتي عن علاجه، قال كلمه الشهيرة: “لن أعالج في فرنسا، حتى ولو مت”، هكذا هم الرجال الزعماء حقاً لا يركعون ولا يساومون الأعداء، حتى ولو كانت حياتهم على المحك.
فرنسا التي وفي عهد بوتفليقة ألقى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند خطابه أمام البرلمان الجزائري بغرفتيه، كما فعل سلفه جاك شيراك، واستقبل كالأبطال الفاتحين سنة 2012م، حيث ألقى خطاباً بالمناسبة يوم 19 ديسمبر 2012م، وتصرف وكأنه الأمر الناهي في البلاد، أماَّ عن أكذوبة أن بوتفليقة قد جاء بقانون السّلم والمصالحة الوطنية، فهو مشروع غيره، والتاريخ يشهد، أماَّ بالنسبة لإنشائه لمدارس أشبال الأمة، فهذه مغالطة تاريخية كبرى، إذ أن المرحوم هواري بومدين هو من أمر بإنشائها، وبقيت تعمل في سرية بعد وفاته، وكان يدرس فيها أبناء النخبة في جهاز المخابرات في الأساس، بالإضافة إلى براعم يتم اختيارها وفق ضوابط صارمة، ومن عائلات ثورية، وهذه من أسرار الدولة العميقة التي استغلها بوتفليقة، ومن يدور في فلكه، للتَّرويج لنفسه، وأماَّ تحديث وتطوير المؤسسة العسكرية، فالجميع فيها يعلم بأنه قرار كان قد اتخذ منذ سنة 1998م، أي قبل وصوله إلى سدَّة الحكم، لأن كل القراءات الأمنية والدراسات والبحوث الأكاديمية، ومراكز صنع القرار العسكري، كانت تعي جيداً، حجم الأخطار المستقبلة التي تتهدد أمن البلاد، ولا أذيع سراً ربما، إن قلت بأن المؤسسة الأمنية في الجزائر، كانت على علم مسبق بموجات ثورات الربيع العبري، حتى قبل وقوعه نتيجة تسريبات ومعلومات خاصة ومؤكدة، حصل عليها عناصر جهاز مكافحة التجسس الخارجي في جهاز المخابرات.
ماكرون عندما زار الجزائر، تصرف وكأنه الحاكم الفعلي لها، وهو شيء بدا ظاهراً للعيان، واستقبل من طرف المسؤولين الجزائريين، بحفاوة بالغة لم يحظى بها من سبقوه من رؤساء العالم، وهذه نقاط تثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب؟ لا ننكر بأن العقيدة العسكرية والثورية الراسخة، لدى كبار القيادات الأمنية، هي من منعت إقامة قواعد عسكرية فرنسية في الجزائر، وبأن التقاليد الدبلوماسية العريقة هي من تحافظ على استقلالية القرار السِّياسي فيها، على المستوى الخارجي، ولكن الرضا الفرنسي عن الجزائر، ومباركة قصر فرساي الضمنية، وعدم ممانعته للعهدة الخامسة، تذكرني بمقولة للزعيم الخالد بومدين رحمه الله تعالى “إذا رأيت الأمور عادية بين الجزائر، وفرنسا وكانت فرنسا راضية على الجزائر، فاعلم أن هناك شيئاً ما على غير ما يرام يحدث في الجزائر”.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.