زاد دي زاد - الخبر مقدس والتعليق حر

ملاحظة: يمكنك استعمال الماركداون في محتوى مقالك.

شروط إرسال مقال:

– النشر في “زاد دي زاد” مجّاني
– أن يكون المقال مِلكا لصاحبه وليس منقولا.
– أن يكون بعيدا عن الشتم والقذف وتصفية الحسابات والطائفية والتحريض.
– الأولوية في النشر للمقالات غير المنشورة سابقا في مواقع أو منصات أخرى.
– الموقع ليس ملزما بنشر كل المقالات التي تصله وليس ملزما بتقديم تبرير على ذلك.

المسخ اللغوي

المسخ اللغوي ح.م

قُدّر لأمير الشعراء، أحمد شوقي، أن يزور الجزائر بعد أن نصحه أطباؤه أن يقضي فترة نقاهة تحت سماء إفريقيا الدافئة، بعدما تماثل للشفاء من مرض شديد كان فيه "بين الحياة والموت".

أقام شوقي أربعين يوما في الجزائر العاصمة للاستشفاء. وانبهر لجمالها وتناغم عمرانها وبساطة طبائع أهلها، واندهش أكثر من خليط اللغات واللهجات المنتشرة فيها، وقال عنها قولته الشهيرة: “ولا عيب فيها سوى أنها مسخت مسخا. فقد عهدت مسّاح الأحذية يستنكف النطق بالعربية، وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلا بالفرنسية”.

pinterest

سعد زغلول و احمد شوقى وخلفهم عبد الوهاب فى بدايتة عندما تبناة احمد شوقى فنيا و الصورة سنة 1924 فى بيت شوقى كرمة ابن هانىء الان اصبحت متحف

وجاء شوقي إلى الجزائر، وفضّلها على غيرها من البلدان لأنها بلد عربي كان الشاعر يأمل أن ينسى فيه بعض حنينه إلى موطنه وإلى ديوان الخديوي، بعد أن منعه من العودة إلى مصر، ولأنه كان أيضا يعتقد أن الجزائر شبيهة ببيئته التي نشأ فيها.

وقد أقام شوقي أربعين يوما في الجزائر العاصمة للاستشفاء. وانبهر لجمالها وتناغم عمرانها وبساطة طبائع أهلها، واندهش أكثر من خليط اللغات واللهجات المنتشرة فيها، وقال عنها قولته الشهيرة: “ولا عيب فيها سوى أنها مسخت مسخا. فقد عهدت مسّاح الأحذية يستنكف النطق بالعربية، وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلا بالفرنسية”.

ويخطئ من يظن أن سبب اندهاش أحمد شوقي هو جهله باللغة الفرنسية، فهو كان يحذق، بالإضافة إلى العربية، العديد من اللغات منها الفرنسية والتركية. ونشأ في بيئة أرستقراطية غنية متفتحة، كما كان مُلمّا بالآداب الأوروبية وثقافات الأمم الأخرى.

وبعد سنة من زيارته إلى الجزائر ودّع أمير الشعراء هذا العالم، “وسقطت غيتارة الشعر من يده”، كما قال الناقد شوقي ضيف، فندبته الأمة العربية بدموع حرّى، وتبارى الشعراء في رثائه، ومنهم بشارة الخوري وصديقه خليل مطران.

اليوم، لو عاد شوقي من عالم الغيب إلى الجزائر بعد أكثر من قرن من زيارته لها لاعتذر لمسّاح الأحذية، ولو عاد ابن باديس من عالم الغيب بعد أكثر من سبعين سنة على رحيله لاعتذر لشوقي بعد أن لامه على استدلاله على حالة الجزائر آنذاك بمسّاح الأحذية.

pinterest

صوره نادره امير الشعراء احمد شوقي وابناءه من اليمين ابنته امينة وبالوسط ابنه علي وابنه الاصغر حسين

ونسي الناس ما قاله شوقي عن لغة الجزائريين وخليط لهجاتهم إلا الشيخ عبد الحميد بن باديس. فبمناسبة حفل نظّم في نادي الترقي تخليدا لذكرى الشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ألقى ابن باديس خطبة جميلة تحدث فيها بأسى ولوعة عن شاعري الأمة العظيمين، فأبدى إعجابه بشوقي، شاعر العرب والأحداث الإسلامية الكبرى، الذي عاش عيشة الترف والنعمة، ورثى لمأساة حافظ إبراهيم، شاعر الأخلاق والوطنية والاجتماع، الذي عانى من البؤس والفاقة. ثم ردّ ابن باديس على قولة شوقي آنفة الذكر، متعجبا من استدلاله على حالة أمة بمساح الأحذية منها! ومما قاله ابن باديس في عزة نفس، لكن بعتاب رقيق: “ولا يجمل بي أن أزيد في موقفي هنا على هذا، إلا أن فقيدنا العزيز لو رأى من عالم الغيب حفلنا هذا لكان له في الجزائر رأي آخر، ولعلم أن الأمة التي صبغها الإسلام، وهو صبغة الله، وأنجبتها العرب، وهي أمة التاريخ، وأنبتتها الجزائر، وهي العاتية على الرومان والفاندال لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسخها الأيام ونوائب الأيام”.

واليوم، لو عاد شوقي من عالم الغيب إلى الجزائر بعد أكثر من قرن من زيارته لها لاعتذر لمسّاح الأحذية، ولو عاد ابن باديس من عالم الغيب بعد أكثر من سبعين سنة على رحيله لاعتذر لشوقي بعد أن لامه على استدلاله على حالة الجزائر آنذاك بمسّاح الأحذية.

نحن اليوم نعيش مسخا لغويا مرعبا طال الأسرة والشارع ومؤسسات الدولة وحتى نخبتنا الهزيلة التي كان يفترض أن ترتبط، على حد قول ابن باديس بشعبها وهويتها “ارتباط القلب واللسان وارتباط العقل والتفكير والتقدير”. فهذه النخبة لم تنهض بأمازيغيتها، ولم ترقّ عربيتها، ولم تستفد من غنى الإرث الإنساني. فتراها مثل الممسوخ يرطن بخليط من اللغات شبيه بذلك الخليط الذي ساد موانئ الجزائر في عهد القراصنة. وهي، حقا، مثل ماسح الأحذية المغبون تستنكف النطق بلغتها، وتحتقر شعبها، وتدوس على مقومات هويتها، وتقضي وقتها في مهاترات عقيمة، مفاضلة بين لغة فولتير ولغة شكسبير.

فبدل أن تبحث هذه النخبة عن أنجع الطرق لإخراج المدرسة من نكبتها، وأن تفكر في بيداغوجية حديثة منفتحة على حقائق العالم المعاصر، متكيفة مع تحديات العولمة، ومستوعبة للقيم العالمية والعلم الحديث، قامت بما عجز عنه الاستعمار ونوائب الأيام، وهو استبدال لغة شعب بلغة شعب آخر. وهذا هو المسخ اللغوي!

ZDZzoom

أحمد شوقي – عبد الحميد بن باديس

بلغ هذا المسخ مبلغه إلى حد أن الرئيس بوتفليقة، الذي تعود الحديث إلى شعبه بغير لغته فانتصر لأمير الشعر على زعيم الإصلاح، حين تطرق إلى هجين لغة الجزائريين في العديد من خطبه..

وبلغ هذا المسخ مبلغه إلى حد أن الرئيس بوتفليقة، الذي تعود الحديث إلى شعبه بغير لغته فانتصر لأمير الشعر على زعيم الإصلاح، حين تطرق إلى هجين لغة الجزائريين في العديد من خطبه.

وأتمثل الآن وقد عادت آلة الزمن بشوقي وابن باديس من عالم الغيب كم ستكون دهشتهما وهول صدمتهما من رؤية الجزائري وقد بلغ به المسخ إلى حد أنه أصبح عاجزا عن النطق بأيّة لغة، وإذا خاطبته بلغة البشر لا يجيبك إلا بلغة الإشارات!

وأخشى ما أخشاه هو أن يصدق قول صديقي الشاعر السوداني الكبير المرحوم جيلي عبد الرحمن، الذي أمضى فترة طويلة مدرسا بجامعة الجزائر، وكان يندهش مثل شوقي لهجين لغة الجزائريين، فكان يقول لي متألما مازحا: “إن الله لما خلق الشعوب علّمها اللغات واللهجات والأسماء كلّها، وحين وصل إلى الجزائريين قال لهم تحدثوا كما تشاؤون”.

zoom

ads-300-250

المقالات المنشورة في هذا الركن لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

2 تعليقات

تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.

  • تعليق 7262

    دوادي

    تحياتي استاذ جمي ما تفضلتم به و لو اننا كجزائريين نتكلم كما نشاء لهان الأمر و لكن المصيبة ان نتكلم كما يشاء الأخرون .

    • 0
  • تعليق 7273

    ابن محمد

    تحية طيبة للأستاذ بوباكير و للقراء، الكرام

    الحديث ذو شجون، وحديثك يا أستاذ ترك شجنا منها يأخذني إلى بَلَّةٍ أخرى زيدت في طين ما تناولته في مقالك القيم، و أقصد بالبَلَّة التي زيدت، لغةَ التواصل الاجتماعي التي جاءت مع الانترنيت و الهاتف النقال فكانت لوثة و آفة لم تصيبا لغة بعينها، وإنما لحقتا بكل لغات العالم، وإن استمرت الحال على ما هي عليه، فستندثر كل اللغات وتختفي من الاستعمال الاجتماعي الواسع لتنحصر في فئات الباحثين والدارسين المتخصصين فيها أكاديميا، وسيختفي معها لدى سواد الناس كل الموروث المعنوي الحضاري والثقافي الرفيع الذي تحمله وتحفظه اللغات الحقيقية للشعوب و الأمم، مع ما يصاحب ذلك من انحطاط قيمي جمالي وأخلاقي نراه واقعا بعد، وماثلا للعيان لا يحتاج إلى تدليل!

    وهذه آفة ذات بعد كوني، هي في الواقع أخطر من آفات التلوث الجوي والبيئي والاحتباس الحراري، وغيرها، ظهرت بالتزامن مع ما فتئ يظهر من جوائح ناتجة عن انتقال حكم العالم، منذ أمد، من أيدي الحكماء من المفكرين والعقلاء من الساسة إلى أيدي التجار الفجار، بنزقهم وجشعهم.

    إن العالم لم يعد يحكمه إلاّ ” الشركة “،
    و الشركة عبارة عن مترفين تجمعوا و تآمروا، فتأمَّروا ليفسقوا في قرية العالم، لتهلك !

    إن إلقاء نظرة على ما يبث بهذه اللغة اللقيطة على قنوات التلفزيون من إشهار، و ما يكتب منه حتى في الصحف، و ما يكتب منه على الواجهات يثبت ما سلف من القول.

    وما لم يبادر العالم، حفاظا على الموروث الحضاري والثقافي الرفيع للأمم، إلى عقد معاهدة لمكافحة هذه الآفة، تلتزم فيها الدول بأن تلزم “تجارها” وما يتبعهم من وسائط إعلام وإشهار مرئي ومسمــوع
    ومكتوب بالصحف وعلى الواجهات، باحترام قواعد اللغات، حتى ولو اقتضى الأمر تأسيس “محاكم” خاصة بذلك، فعلى اللغات وما تحمله من قيم ثقافية/حضارية و من جمالية أدبية، السلام! أي وداعا!

    إنه الافساد في حضارة و ثقافة كل أمم العالم، بعد الإفساد في الأرض، و إنه لَــ “تَقَدُّمٌ ” إلى الوراء حقا !

    • 0

فضلا.. الرجاء احترام الآداب العامة في الحوار وعدم الخروج عن موضوع النقاش.. شكرا.