ما الذي يثير إعجاب من يسمّون أنفسهم بالباديسيين- النوفمبريين بأردوغان والتجربة التركية؟ وما الجامع بين الصنهاجي ابن باديس والعلماني أتاتورك؟
ننظر قليلا في التاريخ.
قد يخيّل للبعض ألا شيء يجمع بين مؤسس جمعية العلماء المسلمين، الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومؤسس تركيا الحديثة، كمال أتاتورك، عدا ذيوع صيتهما، وانتمائهما إلى رقعة حضارية واحدة، وكونهما عاشا في الفترة الزمنية نفسها، وكون العمر لم يمتد بهما فوق الستين، ومواجهتهما نفس المشكلات التي عرفها المجتمع الإسلامي آنذاك، من تخلّف وتمزّق وتكالب استعماري. حقا، فهناك أمور كثيرة تباعد بين الرجلين.
فالأول رجل علم ودين، سعى إلى إصلاح الإسلام وتجديده، بالدعوة الخالصة والكلمة النبيلة والقلم الصادق. لم يعرف في حياته معنى للخشونة أو تحريضا على عنف أو تمجيدا لقوة. عاش زاهدا متقشفا مسالما هادئ البال، رغم أن منشأه كان يؤهله لحياة الدعة ويسر الحال. مارس السياسة بقدر اتساقها مع أخلاقه، وتحقيقها لمطالب شعبه، وتناغمها مع مقاصد معتقده.
وأما الثاني فقد جاء إلى الحياة في سالونيك، باليونان حاليا، في أسرة متواضعة، لم يكن تقلّب حالها ليؤهله لتأدية الدور الحاسم، الذي أدّاه بين الحربين الكونيتين. لم يعرف في حياته إلا حياة الثكنات.
فقد دخل المدرسة العسكرية في سالونيك، وعمره لمّا يجاوز الثانية عشر، ثم درس في المدرسة بالقسطنطينية، وبعدها في الأكاديمية الحربية، التي تخرّج فيها سنة 1905 برتبة نقيب، وجرح في عينه في آخر الحروب في ليبيا دفاعا عن الامبراطورية. منذ ذلك الوقت اقتنع أتاتورك، واسمه الحقيقي مصطفى كمال، وهو ينظر إلى بلده، الذي كان يسمى رجل أوروبا المريض بضرورة الإصلاح، لكن نظرته كانت تختلف عن نظرة ابن باديس.
لقد اكتشف أتاتورك أساليب العمل والتنظيم السريين، وأصبح متعاطفا مع حركة “تركيا الفتاة”. وحين أرسل إلى سوريا أنشأ منظمة “الوطن والحرية”، وهو تنظيم سري، وعوض الدعوة بالكلمة آثر قوة السلاح، واختار سياسة غايتها المثلى تبرّر وسائلها على الممارسة السياسية المتسقة مع الأخلاق والمعتقد، حتى ولو مرّت عبر الآلام والدموع والدماء، وبدل الإقناع لجأ، في بعض الأحيان، إلى الإرهاب.
قادته شجاعته الفذة وإرادته الصلبة وتطلّعه اللامحدود إلى كل الجبهات، فخاض غمار الحرب في ليبيا ضد الاحتلال الايطالي، وجرّب فظائع وأهوال حروب البلقان، ودافع ببسالة عن الدردنيل، ونجح في إفشال الهجمات الفرنسية البريطانية على شبه جزيرة غاليبولي سنة 1915. وأصبح حسب تعبير ابن باديس نفسه “بطل غاليبولي الذي قهر الانجليز أعظم قوة بحرية وهزمها في الحرب الكبرى شرّ هزيمة في تاريخها الطويل”. وتألق بعد ذلك في القفقاس وفي سوريا، حيث كان قائدا للجيش السابع في فلسطين.
وحين أدرك تكالب الحلفاء على تقسيم الأناضول شرع في توحيد الحركة الوطنية التركية، فأنشأ جيشا حقيقيا، وشكّل حكومة، ومضى في انتصاراته وحملاته إلى أن حرّر تركيا، وحاز باستحقاق لقب الغازي المنتصر.
وبعد أن دفع المخاطر الخارجية، التفت أتاتورك إلى الداخل، فوجد وضع بلاده كوضع الرجل المريض حقا، فأبطل السلطنة سنة 1922، وأعلن الجمهورية سنة 1923، ثم ألغى الخلافة سنة 1924. وذهب إلى أبعد من ذلك حين ألغى كل المؤسسات الإسلامية، وفرض بالقوة قانون الأحكام الشخصية على الطريقة الغربية، واعتمد التقويم الغربي والأبجدية اللاتينية، وتبنى دستورا جديدا بدل الشريعة، ومكّن المرأة من حق التصويت، وأرسى مشروعه على دعائم ست، هي نظام دستوري قائم على تصوّر لنسق دولة قوية تعتمد على إذكاء روح وطنية تسندها نزعة شعبوية متطرفة بنظام لائكي يفصل الدين عن الدولة، وشعار كل ذلك الإصلاح.
كل هذا يباعد بين المصلح الديني عبد الحميد بن باديس والزعيم السياسي اللائكي كمال أتاتورك. فما الذي جمع بينهما إذن؟
حين رحل كمال أتاتورك في السابع عشر من رمضان 1938 نعاه ابن باديس، ونعاه أيضا عباس محمود العقاد. وحاول البعض عندنا إخفاء نعي ابن باديس له. وقد التقت آراء ابن باديس والعقاد في أتاتورك بشكل لافت للانتباه. لم يبرّر ابن باديس ما قام به أتاتورك حين رفض مجلّة الأحكام. لقد كانت نظرة ابن باديس إلى مؤسس الدولة التركية الحديثة نظرة رجل مدرك للتغيرات العميقة التي أحدثتها في بلده وفي العالم الإسلامي. فهو، بالنسبة إليه، “أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث، وعبقري من أعظم عباقرة الشرق، الذين يتطلعون على العالم في مختلف الأحقاب، فيحوّلون مجرى التاريخ، ويخلقونه خلقا جديدا”. وأدرك ابن باديس أن ثورة أتاتورك لم تكن “ثورة على الإسلام، وإنما على هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين، وعلى الخلافة الزائفة، وعلى شجرة زقوم الطرقية، وعلى جمود العلماء وعلى أعوان الانجليز”.
جمعهما عصر واحد من المحن والهزائم، وباعد بينهما الموقف من الدين ومن الأحكام الشرعية، وقرّبت بينهما النظرة الثاقبة إلى أوضاع الأمة الإسلامية وضرورة تغييرها وبعث مجدها التليد. وإذا كان هناك من عبرة نستخلصها من كل هذا، فهي عبرة التسامي ودرس التسامح والرؤية البعيدة إلى مشكلات الإسلام والمسلمين. وهل الجزائر اليوم مؤهلة بما أفرزه الحراك في أرض الواقع إلى صياغة إسلام علماني؟؟؟
أتساءل فقط!
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.