عناوين فرعية
-
الطبقة الوسطى والنخب المغيبة
يقوم "الصراع" دائما بين طرفين أو أكثر وهذا الصراع من طبيعة السنن البشرية التي تهدف للسيطرة وفرض النموذج القييمي والفكري الذي تؤمن به أو كما لخصه الباحث المصري شوقي ضيف بأن هذا الصراع هو استمرار النضال الذي تتغير أطرافه بتطور الحياة الإنسانية عبر الحقب "فقد ناضل الإنسان أولًا القوى الحيوانية التي تحول بينه وبين هذه السيطرة، ثم أخذ يناضل القوى الإنسانية، فتكونت القبيلة ثم تكونت الأمة واندلعت من إقليمها إلى الأقاليم المجاورة تكتشف آفاقا جديدة"، في محاولة لنشر وفرض رؤيتها على باقي الأقاليم..
ولعل آخر صور هذه الصراعات يتجلي في مفهوم “العولمة” والتي تعتمد في جزئياتها على تطبيق مفاهيم القوة الناعمة، والقوة الصلبة لتحقق في النهاية القوة الذكية وهو ما ذكرته هيلاري كلينتون كأسلوب جديد للسيطرة وللتحكم في مختلف الصراعات العالمية، ويمكن أن نسقط بعض هذه المفاهيم على الانتفاضات الشعبية التي عرفها العالم في وقت سابق، أو حتى الانتفاضات الشعبية التي عرفها الوطن العربي منذ نهاية 2010 ولغاية 2019 الذي لم ينتهي إلا على وقع موجات احتجاجات شعبية في السودان، الجزائر، العراق، ولبنان والذي تختلف فيه المطالب والأساليب وتتفق في طبيعة “الصراع” القائم بالأساس على الوصول للسلطة وهو كما سبق الذكر أنه يتفق مع السنن الإنسانية، ورغم مختلف التفسيرات التي ترجح تارة نظرية المؤامرة وتارة أخرى التغول الذي مارسته وتمارسه الدول الشمولية والتي تسعى للحفاظ على النظام القائم وغيرها من التحليلات والتفسيرات التي تحاول أن تقدم قراءة لهذه الانتفاضات التي عرفها ويعرفها الوطن العربي.
الانتفاضات الشعبية في العالم بقيادة الطبقة الوسطى:
ونشير إلى أنَّ الانتفاضات الشعبية اقترنت في العالم دوما بالطبقة الوسطى التي تسعى لكسب حقوق أكثر ففي سبعينات القرن الماضي كانت هذه الطبقة تتمثل في طبقة العمال التي انتفضت لتطالب بحقوقها لضمان حياة أفضل فكانت في مقدمة الانتفاضات والمظاهرات، وتتفق الدراسات الاستشرافية على أنَّ هذه الطبقة ستعرف بروزاً في آفاق 2030 “وتعرف الطبقة المتوسطة في الدول النامية على أنها تضم الأشخاص الذين يعيشون بدخل يتراوح من دولارين إل عشرة دولارات في اليوم وهذا ينطبق على من تجاوزوا خط الفقر المعروف بالحصول على دخل دولارين في اليوم إلى حالة الطبقة المتوسطة”، أي أنها التي تعرف ظروفاً معيشية متوسطة، ولطالما شكَّلت هذه الطبقة المحرك والمغير للأوضاع في العالم وهذا بالنظر لانتشارها وتمركزها بين الطبقة الغنية والطبقة المعدومة ويذكر الباحث شريف زيتوني دور هذه الطبقة في العالم بكونها طبقة فاعلة “ويعرفها الفيلسوف الألماني ماكس فيبر بأن هذه الطبقة الوسطى هي المتقوقعة في الهرم الاجتماعي بين طبقة العمال والطبقة الغنية، وهي اليوم الطبقة التي تشكل الأغلبية من سكان العالم والمحرك الرئيسي لتفاعلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويعتبر فيبر اتساع حجم الطبقة الوسطى في الدول أمراً إيجابياُ في بنية المجتمعات لكنه يفترض وجود شرط الايجابية بتحقيق حد أدنى من الرخاء أي العيش في وضع مادي محترم.”، وهو ما تطالب به هذه الطبقة التي تتميز أيضاً بوعي سياسي إزاء القضايا التي تحيط بها سواء في الدول النامية أو الدول المتقدمة وانتفاضة السترات الصفراء نموذج على ذلك وأيضا الإضرابات التي تعرفها فرنسا بعد محاولة تمرير قانون التقاعد الجديد خير شاهد على قوة هذه الطبقة والتي تريد ظروفاً ملائمة لها في ظل الظروف المعيشية الصعبة والتي تعرف تدهوراً على المستوى.
هذه الطبقة المتوسطة تتميز بوعيها السياسي الذي يقترن أيضاً بالمستوى التعليمي الذي تستفيد منه في تكوين رؤية حول الأوضاع القائمة في بلدانها وهي بمثابة صمام الأمان حسب تعبير الباحث حسين مفتاح أين تخلق التوازنات القائمة في المجتمعات لاسيما المجتمعات الشمولية التي تستمد شرعيتها من استقرار هذه الطبقة.
وبروز الدور الكبير لهذه الطبقة لاسيما في الوطن العربي اقترن بشكل كبير بالانتشار الواسع لاستخدامات “السوشال ميديا” أي المنصات الاجتماعية كمنبر حر ساهم في انتشار الأفكار المختلفة في حين أن الفضاءات العمومية كانت محتكرة ولا تزال من طرف السلطة التي تحتكر الخطاب الشرعي الذي يستند لرؤية واحدة حول القضايا والمشاكل والحلول أيضاً، ومنه ظهر الدور الكبير الذي تلعبه الطبقة الوسطى في فرض رؤيتها ومحاولة الدفاع عن أهدافها من خلال التعبير الحر عبر مواقع الواصل الاجتماعي لاسيما فايسبوك الذي يعتبر فضاء مفتوح لكل شخص يجيد الإبحار واستخدام الأنترنت (وهنا نشير إلى أن هذه المنصات يتم استغلالها من طرف القوى الكبرى في تمرير أجنداتها الخاصة باستغلال الأوضاع والتحكم في التكنولوجيا مثل ما حدث في تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة لصالح ترامب بفضل القرصنة الالكترونية التي قامت بها روسيا أي أنها كفضاء فعلي للتعبير الحر يطرح عديد التساؤلات حول حقيقة الصفحات والحسابات الوهمية وهو ما يسمى بالذباب الالكتروني وهو المصطلح الشائع الاستخدام وفي بعض الأحيان الاتهام الأول لمن يخافك الرأي)، لكن هذه الطبقة وعلى مدار انتفاضاتها في العالم يعاب عليها عدم تميزها بقائد لهذا النضال فتبقى المطالب مشتتة وليس لها قائد أو جهة تمثلها، وزئبقية هذه المطالب تجعل من استمرار هذه الانتفاضات ومفاوضتها للسلطة القائمة صعب جدا في غياب النخب التي من المفروض أن تصطف خلف هذه القاعدة الوسطى التي تعتمد على التعداد أكثر من أي شيء آخر للضغط وتمرير مطالبها وكذا على وسائل الاتصال المرئية منها بشكل خاص.
والتغييب الممنهج للنخب ينتشر بصفة أكبر في الدول الشمولية وهذا بالنظر لتهميشها سابقاً من طرف السلطة القائمة وما تشكله هذه النخبة من تهديد لها، كما أن عدم وجود رؤية مشتركة لهذه النخب تجعل من تشتيتها وتفكيكها أمراً سهل لاسيما لما يكون ولاء هذه النخب للطائفة والعرق، ولا تتميز برؤية اشمل لمفهوم الوطن أو الأمة، في غياب تثمين لمقومات الوحدة التي يتميز بها المجتمع وتؤمن بها غالبية الطبقة الوسطى، فبهذا يصبح تدجين هذه النخب أمر سهل وهين على السلطة، كما أن الطبقة الوسطى تبتعد نحو الخطابات الشعبوية التي تعتقد أنها الأقرب لها في فهم مطالبها وأهدافها وآمالها.
النخب وصناعة خطاب الكراهية والحقد:
بالعودة لدور النخب المنوط لها فإننا نشير إلى أنه في الانتفاضات الشعبية في أغلب الدول العربية كانت النخب مغيبة أو أنها التحقت بهذه الانتفاضات بشكل متأخر بعد أن تأكدت أن المآلات لن تكون في صالحها، وهو ذات الحال في الجزائر.. أين نجد أن النخب في مختلف المجالات لم تحدد موقفها بشكل جلي من هذه الانتفاضة الشعبية ورغم مشاركة مختلف الشرائح والطبقات وحتى بعض النخب التي كانت في مقدمة الحراك الرافض للعهدة الخامسة إلا أنَّها لم تقد الحراك والذي لم يقدم الأسماء التي لم تنل قبولاً وطنياً سوى تلك المحسوبة على جهات معينة لاسيما وأن انتفاضة الجزائر ليست انتفاضة الجزائر العاصمة بل كل منطقة من الوطن، بالمقابل فقد نجحت مرة أخرى “نظرية فرق تسد” في شق صفوف الحراك والنخب أيضاً التي ساهمت وتساهم في صناعة خطاب الكراهية، الحقد، والانحياز، في حين أنه كان منتظر منها أن تقدم خطاباً موحداً شاملاً لكل الوطن، غير أن الانتماءات العرقية أو حتى المصلحية، وحتى الفكرية ساهمت في نشر هذه الخطاب الذي لا يخدم الانتفاضة الشعبية بل على العكس من ذلك ساهم في نشر هذه الخطابات العنصرية التي باتت منتشرة عبر حساباتهم في فايسبوك ممن يصنفون أنفسهم في خانة النخب، والمتتبع للكثير من هذه الحسابات سيستشف خطورة هذه الخطابات التي تؤسس للكراهية والتفرقة، ولعل الخطورة تكمن في كون هذه الفئة تصنف في خانة قادة الرأي الذين ينتظر منهم تشكيل قاطرة الرأي العام الذي يتبنى هذه الآراء والمواقف غير أنها لم تقدم التوجه الحقيقي للحراك الذي تشكل في صور انتفاضة جميلة تحلم بجزائر موحدة لكن هذه النخب تخلَّت عن دورها الحقيقي وباتت توظف في أفكارها مصطلحات خطيرة جدا تحث على التفرقة وعلى نشر عقد التفوق والسب والشتم باتت تنشر بشكل علني في شكل رسائل مباشرة أو مبطنة، وهو في النهاية ساهم في تفكيك المفكك أصلاً في ظل مجتمعنا الذي لا يزال متخاصم مع التاريخ، الجغرافيا والانتربولوجيا رغم وجود باحثين يقدمون رؤى علمية مؤسسة وخطاب متوازن لكن لا تعرف خطاباتهم انتشاراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالنظر للكثير من الاعتبارات.
الطبقات المتوسطة والخطاب الشعبوي:
وبعيداً عن خطابات النخبة التي لم ترقى لطموحات الطبقة الوسطى والتي لم تتفق على أصوات تمثلها في ظل اتهامات من مختلف الجهات باختراق الحراك من طرف منظمات دولية وشخصيات دخيلة، وكذا أصوات متعددة لم تكن يوماً تحظى بقبول شعبي بالإضافة لخطابات الحقد والكراهية والعنصرية جعل من الطبقة الوسطى تتجه نحو الخطابات الشعبوية والتي عبرت حسبهم عن الحراك بشكل أكثر جدية وإقناعاً من خطابات النخب التي اكتفت بكيل التهم لبعضها البعض في مشهد استفاد منه المحركون الفعليين لقواعد اللعبة، وأعطت هذه النخب مبررات لتهميشها من جديد وحتى لا يكون لها أي دور أو مكان في المشهد القادم، مع بزوغ أصوات شعبوية تقدم البديل لهذه الطبقة وهذه الظاهرة باتت شائعة ليس فقط في الدول النامية بل حتى في الدول الديمقراطية وهو مل يفسره الباحث عزمي بشارة في دراسته المعنونة بالشعبوية والأزمة الديمقراطية والذي يوزعه لتراجع الثقة في الخطابات الكلاسيكية فيقول “يؤدي تفاقم عدم الثقة بالأحزاب في ديمقراطيات الدول المتطورة والنامية، وتزايد وزن العنصر الشخصي في السياسة مع تصاعد دور الإعلام المرئي ووسائل الاتصال الشبكية إلى صعود سياسيين غير حزبيين يعتمدون على النجومية والديماغوجيا الإعلامية وغيرها ويتسلل إلى السياسة رجال أعمال فاسدون لكنهم في نظر الجمهور مؤهلين لأنهم جمعوا ثروتهم خارج المنظومة السياسية ولأنهم يتكلمون لغة البسطاء ليس بسبب بساطتهم بل قلة ثقافتهم أو/و ديماغوجيتهم.” وهو تشريح للواقع الذي بات حقيقة في الخطابات التي يزكيها الشارع والتي يتبناها أشخاص بعينهم ولأنهم يتحدثون لغة الشارع وخطابات الشارع بالنظر لتقارب فهمها من طرف الجميع، وهو ذات الحال الذي بات يسيطر على الخطاب الذي تتبناه الجموع التي لا تزال تنزل للشارع في الجزائر خاصة وأن النخب انسحبت من وظيفتها الفعلية وبقيت إما مدجنة مرتبطة بوظائفها بعيدة عن الفعل الاجتماعي أو غارقة في عنصريتها وصناعة خطابات الكراهية والحقد.
كما أن التركيز المرئي على العاصمة جعل هذه الطبقة الوسطى تكفر بكل من يراهن على تمثيلها في ظل عدم الاتفاق وخطابات التخوين وإدعاء الوعي المقدس على حساب البقية وكذا على حساب هذه الطبقة الوسطى التي تحركت بشكل عفوي في بداية الحراك والانتفاضة التي طالبت بتغير الوضع الراكد في الجزائر على مختلف الأصعدة ومحاولة الدنو من مفهوم الدولة المدنية في نظام شمولي تتقاطع فيه الرؤى مع النسق العالمي الذي ينتظر بداية التحرك الفعلي نحو التدخلات المباشرة في السياسة الداخلية الجزائرية خوفاً من فقدان مصالحها الاقتصادية لاسيما وأنَّ القوى الإقليمية تتحرك أيضا كما هو الحال في التدخلات التركية،القطرية، المصرية السعودية والإماراتية في ليبيا وهو ما يشكل تهديداً ليس فقط لحدودنا الشرقية بل مهدد لاستقرار المنطقة ككل بجعل ليبيا سوريا جديدة، كما أنه يتوقع موجة هجرة، ولجوء نحو الجزائر، ولعل الطبقة الوسطى تغييب هذه الجزء من رقعة الشطرنج الذي تلعب الآن بين مختلف الفاعلين الذين يقدمون آخر أوراقهم لإنهاء هذا المشهد الدرامي الذي لا يجوز أن تغيبه النخب لكن هذه الأخيرة لا تزال في قوقعة خطاباتها الحاقدة والسطحية ولا تقدم تصوراً حقيقياً للأحداث التي تواجه الجزائر في الوقت الراهن لاسيما وأن الجيش الجزائري في حالة استنفار منذ عدة سنوات وهدف ذلك إنهاك الجيش الجزائري الذي يرابط على جبهات النار عبر كل الحدود الملغمة خاصة وأن تجربة تيقنتورين أثبتت أنه يصعب مراقبة كل منافذ الحدود الذي تنتشر فيه الشبكات الإجرامية والإرهابية.
حقيقة الصراع بين “السلطة” والراغبين في الوصول للسلطة:
ويبقى هذا الصراع الذي كما ذكرنا في بداية المقال أنه من السنن الكونية والتدافع لتقديم بديل يعتقد المدافع عنه أنه الأصلح والأحسن والأكثر كمالاً، لكن في حقيقة الأمر هذا الصراع وفي كل الأزمنة والأمكنة هو صراع للوصول للسلطة مع وجود الطرف الأول المتشبث بهذه السلطة ويحاول ربح الوقت لترتيب أوراقه من جديد ولتقديم حلول مقنعة للطبقة الوسطى التي تنامي دورها في الجزائر وفي العالم ككل ومن المنتظر أن يكون لها دور ريادي في السنوات اللاحقة.
لكن تبقى هذه الطبقة الوسطى في الجزائر تحتاج إلى القاطرة التي تدفع بها نحو الوصول للسلطة وتغيير كل النسق السياسي القائم أو حتى نحو التفاوض وتقديم المطالب بشكل واضح أو حتى أن تتحد في شكل جمعيات أو أحزاب سياسية تجمع شتات هذه الطبقة الوسطى التي بدأت بشكل جميل لكن تحقيق مطالبها وتصوراتها مرهون بالنخب التي ينتظر منها الاصطفاف في الجهة التي تحقق التوافق والتعايش الاجتماعي في ظل تهديدات الأمن الثقافي والاجتماعي في الجزائر والمهددين على كل الأصعدة والاتجاهات خاصة وأن المحركون الفعليين لم يلعبوا آخر أوراقهم في الجزائر على الأقل حتى الوقت الراهن… انتهى…
للتواصل والنقاش: boukhariensjsi@yahoo.com
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.