تأكّد، الآن، بعد نشرها مقالين الأول ضد ثورة التحرير والثاني حول "فساد" حُكّام الجزائر وتورّطهم في فضيحة بنما، أن صحيفة "لوموند" الفرنسية الكبيرة أعلنت الحرب رسميا على السلطة في الجزائر، وشرعت في مسلسل "انتقام"، بسبب منعها من تغطية زيارة رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس إلى الجزائر في أفريل الفارط، بحجة إساءتها للرئيس بوتفليقة بصورة، ومقاضاتها على ذلك.
لكن، قبل أن نصل إلى مرحلة “الانتقام” هذه، ترى؛ كيف كانت علاقة لوموند بالسلطة في الجزائر منذ أيام الرئيس الأسبق هواري بومدين وكيف وصلت إلى ما هي عليه اليوم في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؟
“لوموند” في خدمة بومدين
يقول القائم بأعمال مديرية الإعلام في رئاسة الجمهورية أيام الرئيس بومدين، الدكتور محي الدين عميمور، في كثير من تصريحاته، إن بول بالطا، مراسل “لوموند” في الجزائر، كان ينقل أخبار الجزائر إلى صحيفته من رئاسة الجمهورية.
لقد أقام الرئيس بومدين علاقة شخصية مع بالطا، وصار يمرّر من خلاله رسائله التي يريد إلى باريس وغيرها، كان يخصّه بالحصرية، حتى يبقيه قريبا منه، وفي مرات كثيرة كان يؤجّل نشر أخبار بطلب من الرئيس، لحاجة في نفسه..
رحل بولطا من الجزائر إلى طهران، بطلب من جريدته، ولما أخبر الرئيس بأنه سينتقل إلى طهران في إطار حركة مراسلي “لوموند” عبر العالم، تأسف بومدين لذلكوتمنى بقاءه ليشهد قرارات مهمّة كان سيتخذها في نهاية السبيعينيات، وهذا حسب رواية بالطا نفسه.
إشهار دون فائدة
في 4 جويلية 2012، اشترت رئاسة الجمهورية “كُرّاسة إشهارية” من 16 صفحة في يومية “لوموند” بقيمة 1.6 مليون أورو حسب يومية الوطن الجزائر، وكان هذا بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال البلاد، تضمنت مجموعة حوارات مع الرئيس بوتفليقة ووزراء، ورغم أن كل شيء كان مدفوعا بالعملة الصعبة إلا أن جمعية المحررين في الجريدة احتجّت على أن تتحوّل جريدتهم إلى واجهة لـ”تلميع” صورة السلطة في الجزائر.
والمؤسف والمبكي بعد كل هذا، أن إدارة “لوموند” اعتذرت لدى قرائها عن هذا الملحق الإشهاري! وواضح أن الجزائر لم تستفد شيئا من هذا الإشهار، لأن المستثمرين الأجانب كانوا يفرّون من البلاد لأن مناخ الاستثمار لم يتوفّر لهم وإنما قرأوه على صفحات “لوموند” فقط!
صورة الرئيس.. وبداية “الانتقام”
في أفريل 2016 نشرت “لوموند” مقالا حول تورط مقربين من الرئيس في فضيحة “وثائق بنما”، مرفقة بصورة له، وهو ما أثار غضب الرئاسة، التي رفضت إدراج صورة الرئيس، وأرسلت ردّا لكن الصحيفة “أخفته” في مكان هامشي أسفل الصحة وبخط صغير جدا، عكس المقال الأول الذي تصدّر الصفحة الأولى بخط عريض وصورة واضحة لبوتفليقة.
و”عاقبت” رئاسة الجمهورية الصحيفة، مرة أولى، بمنع صحفييها من دخول الجزائر بمناسبة زيارة الوزير الأول الفرنسي، مانويل فالس، إلى الجزائر يومي 10 و11 أفريل المنصرم، ثم مرة ثانية برفع دعوى قضائية ضدها.
وطالبت الرئاسة بإجبار “لوموند” على نشر الحكم القضائي في الصفحة الأولى، وبالبنط العريض (1 سنتمتر)، وبإدانة مدير النشر لويس دريفيس والشركة الناشرة، بتهمة القذف في حق السيد عبد العزيز بوتفليقة. كما طالب الادعاء بتعويض رمزي (1 أورو) لبوتفليقة عن الأضرار التي تعرض لها، وعشرة آلاف أورو أخرى كتعويض مادي عن الدعوى المدنية.
بهذه الأسلوب “تمرّدت” الصحيفة الفرنسية على السلطة في الجزائر، رغم ما أغدق عليها من مال وحُظوة، بينما كانت يوما ما طوع بنان الرئيس بومدين، دون أن يمنحها سنتيما.. ترى أين الخلل؟
“خِنجر” صنصال و”أوساخ” بنما
“مسلسل التمرّد وبداية الانتقام” بدأ في 18 جويلية، حين فتحت “لوموند” صفحاتها للروائي الجزائري، الحاقد على ثورة التحرير، بوعلام صنصال، ليكتب مقالا قلب الرأي العام الوطني، قارن فيه بين اعتداء مدينة نيس الإرهابي وبين كفاح ثوار جبهة التحرير الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وواضح أن النية من المقال كانت إيذاء الجزائريين في أقدس ما يملكون.
ولم تهضم “لوموند” هذا المصير، ورأت فيه “تطاولا” من رئيس الجزائر عليها، فقررت الانخراط في مسعى “انتقامي”، بدأ في 26 جويلية الجاري، حيث نشرت تحقيقا مطوّلا بعنوان “كيف حوّلت النخبة الجزائرية أموال البترول”، وهو تحقيق لرابطة الصحفيين المحققين الدوليين تحدّث عن “تورّط” وزراء ومسوؤلين جزائرين في تهرب ضريبي وإنشاء شركات وهمية فيما عُرف بـ”وثائق بنما”.
بهذه الأسلوب “تمرّدت” الصحيفة الفرنسية على السلطة في الجزائر، رغم ما أغدق عليها من مال وحُظوة، بينما كانت يوما ما طوع بنان الرئيس بومدين، دون أن يمنحها سنتيما.. ترى أين الخلل؟
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.