غيّر موقع ويكيليكس العالم بنقرة صغيرة على جهاز التحكم في الكمبيوتر، وفي الوقت نفسه أظهر حجم التغيير الذي شهده العالم في السنوات القليلة الماضية بفضل الانترنت، في زمن اصبح فية الجميع يهذر. لذا انتبه على ما تضعه في الموقع.
وعنصر آخر جديد: ستسعى الحكومات للسيطرة على الانترنت واخضاعه أو تكبيله ببحر من القيود.
عالم اليوم لم يعد كما كان الوضع عليه قبل بدء الموقع بنشر الرسائل الدبلوماسية للسفارات الأميركية حول العالم إلى وزارة الخارجية في واشنطن. اما الأشياء الجوهرية التي يتوجب الالتفات إليها الآن فهي الحذر من كل ما يوضع على الانترنت والانتباه إلى ان الحكومات ستعمد إلى بناء الجدران أمام الانترنت.
ما نشره موقع ويكيليكس فتح نافذة نحو المستقبل، ولذلك من المفيد النظر إلى ما حدث فعلا والتفكير بما سيحل لاحقا.
العالم أكثر شفافية
من المهم بمكان هنا النظر إلى بعض الأخبار التي نشرت اخيرا على محمل الجد، ففي الوقت الذي عانى فيه موقع ويكيليكس من نقص في التروية، وغاب للحظات وتعرض للمطاردة الحكومية، ظهرت نسخ أخرى منه، فبعض الموظفين في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل أعلنوا عن تأسيس «بروكسلسليكس»، فيما أسس المنشقون عن «ويكيليكس» الذين لم يعودوا يتحملون «الانا» الخاصة بالمؤسس جوليان اسانج موقعا يحمل تسمية «ليكس»، أما في اندونيسيا فقد بدأ موقع «اندوليكس» يعمل بينما أعلن حزب القراصنة في تشيكيا انه سيطلق موقع «بيراتيسليكس»، والأمر نفسه يتم في العديد من الدول الأخرى.
ماذا يعني؟!
ماذا يعني كل هذا؟ هل الأمر يمثل بداية حقبة جديدة أم أن الجميع سيتوقفون عن الإعجاب بما حصل؟
في الكثير من الدول، يوجد اناس يتبنون مواقف ضد الحكومات والآن لديهم كومبيوترات، والكثير منهم من النوع الفوضوي يقومون بمختلف الاعمال لمجرد المتعة، كما يوجد أناس يركضون بسرعة للمشاركة عندما يبدأ قذف الحجارة، غير انه يوجد بالمقابل الكثير من الناس الذين يمتلكون قناعة بأن المواطنين يمتلكون الحق بمعرفة ما هو موجود بين أيدي الحكومات، أما ما يمتلكه المواطنون الآن من قوة تدميرية فهو تكنولوجيا الكومبيوتر.
ولكن هنا يتوجب الانتباه، فالهدف يمكن أن يطال أي شخص أو جهة، فالذي حصل للدبلوماسية الأميركية يمكن أن لا يقتصر على المستوى الحكومي، بل يمكن له أن يطال الشركات وحتى الأشخاص أيضا. ولذلك قد تستيقظون يوما ما وتكتشفون ان بعض الأحاديث الخاصة، أو النشاطات الخاصة بكم منشورة على الانترنت، كما يمكن لأي شخص أن يضع المعلومات الخاصة بكم التي ليس من الصعوبة بمكان الحصول عليها، أما اذا أطلقتم وصف فقدان الخصوصية لمثل هذه الأعمال فانتم محقون في ذلك.
الحرب والإنترنت
ان ما حصل يمكن تسميته بسراييفو أول حرب انترنت. وقد نشب القتال حول مستقبل الشبكة بين جهاز الدولة السياسي وبين الانترنت المفتوح.
ان هذه المواجهة لم يكن مقدرا لها ألا تأتي، فالقوة والحرية اللتان لا حدود لهما واللتان كانت كلتاهما تطالب بحق عدم التوقف عند الذقن الأجنبية توجب عليها أن تدخل في مواجهة، فالدخان كان يتصاعد من هذا الصراع منذ عدة أعوام، وقد تظاهر الانترنت بأنه شيء آخر لأنه مجال وليس وسيلة اعلامية، وتظاهر أنصار الحرية المطلقة على الانترنت بان المعلومات المنشورة على الشبكة هي مجرد كلمات مكتوبة بالعصا على سطح نهر، ولهذا لا تقع على عاتقهم أي مسؤوليات. ولم يلاحظ احد بالفعل هذا الأمر لسنوات طويلة لان الانترنت بدا وكأنه لعبة ولم يعرف احد كيفية التعامل معه. أما الآن فقد نشبت المواجهة لان الدول عرفت مقدرة الانترنت، ولهذا تريد أن تقيم الجدران حوله وتجري عملية تطهير أيضا.
الحرب المعلوماتية تهديد حقيقي
ان الحديث عن ذلك مستمر بشكل متواصل، ولكننا نأخذه فقط كخلفية لأفلام الرعب أي انه شيء يمكن الشعور بالرعب منه، غير أن هذا الشعور لطيف لأننا نعرف ان ذلك لن يحصل أبدا، مع أن هذا الأمر خطأ. فقبل اقل من 20 عاما احتاج المليونير الكبير جورج سورس الى 10 مليارات دولار كي يجعل بنك انكلترا يركع على ركبتيه ويخفض قيمة الجنيه الاسترليني، أما اليوم فلن تكون هناك حاجة الى المليارات، فالحاق الحجم نفسه من الأضرار يتطلب الآن فقط جهاز كومبيوتر مرتبطا بشبكة الانترنت وبعدها يمكن نشر أشياء قبيحة وغير مسرة عن اكبر قوة في العالم، ويمكن لكم أن تصبحوا المحرك الرئيسي للأحداث العالمية والمطارد الأول في العالم الذي يتم الحديث عنه أكثر من أسامة بن لادن، كما يمكن مهاجمة مصرف أو تعطيل مواقع شركة أمازون دوت كوم الأوروبية كما فعل القراصنة للانتقام لجوليان اسانج.
ويخشى البريطانيون الآن من قيام القراصنة بمهاجمة مقر الحكومة وخلط ملايين المعطيات في الدوائر المالية.
المخاوف هذه لها ما يبررها لأنكم شاهدتم الآن قوة الكومبيوترات والانترنت، وتعرفون ماذا يمكن لها أن تقوم به، كما أنها تتقن أشياء أخرى مثل شل حركة النقل الجوي، وحركة القطارات، وقطارات الانفاق، وادارة الشبكة الكهربائية، ونقل مواد الطاقة، وتعطيل النظام المصرفي، ونظام البورصة ونظام تأمين المياه، الأمر الذي اذا ما حصل فسيعني حالة كبيرة من الفوضى. أما من يعتقد بان الشبكة الخاصة به محمية ولا يمكن لأحد أن يعكرها من الخارج فهو واهم، فالأسرار الدبلوماسية الأميركية أيضا هي من النوع المحمي ومع ذلك جرى السطو عليها. أما الدرس من هذه المسألة فهو: لاشيء كامل لا يمكن الوصول اليه وأمام الانترنت لا يمكن بناء خط ماجينو.
الأسرار لن تكون سرية
ما جرى اظهر ان الدول لديها مشكلتان: الأولى الحاجة الى تقاسم الأسرار على شبكتها الداخلية، والثانية السذاجة التي تتم بها هذه العملية. وبشكل ما، فان ما جرى يتحمل مسؤوليته أسامة بن لادن، فالأميركيون بعد أحداث 11 سبتمبر اندهشوا من حجم الاشارات والتحذيرات التي تلقوها، ورغم ذلك لم يستنتجوا شيئا مفيدا منها، لأنهم لم يتمكنوا من توحيد جهودهم. أي لم يكن هناك شخص يعرف جميع المعلومات التي قامت بتجميعها الدوائر المختلفة. أما الرد على ذلك فكان بناء نظام هائل من الانترنت الداخلي، حيث كان يجد الناس الموثوق فيهم. كل شيء، لكن المشكلة أن عددهم كان كبيرا أي نحو 2.5 مليون شخص (هناك حديث عن رقم اكبر) ولذلك حدث ما حدث.
صحيح أن النظام الجديد كان أكثر فعالية من النظام السابق، لكن كانت فيه ثغرة هائلة فمن غير المعقول أبدا ان عسكريا صغيرا في العراق كان في استطاعته الاطلاع على البرقيات السرية للدبلوماسية الأميركية، وان النظام لم يتعرف على الشخص الذي لا يحق له الدخول اليه، ولذلك يفرض السؤال التالي نفسه: هل كان هذا الأمر هو الاختراق الأول وماذا لو كانت بعض أجهزة المخابرات تغرف أيضا من هذا النظام المعلومات ؟!
وبالنظر لظهور كم المعلومات، فان الحكومات ستتواصل فيما بينها الآن بشكل مختلف، كما كان الوضع أثناء الحروب عندما كانت توضع على الظهور ملصقات مكتوب عليها «انتبه فالعدو ينصت اليك». وقد وصف الأمر وزير الدفاع الأميركي السابق ويليام كوهين بالقول: «بعد الآن لن يريد احد التحدث عبر التلفون أو التواصل بالبريد الالكتروني أو استخدام الرسائل وسيكون الحديث الوحيد المقبول هو الحديث المباشر أي من العين الى العين»، أما السبب فهو أن لا احد يستطيع ضمان التكنولوجيا لأنه لا يمكن التحكم بها بنسبة %100 .
لقد توقع دبلوماسي بريطاني أيضا ان تواجه الشركات الكبيرة الأمر نفسه مستقبلا، ولذلك فعندما سيعمد الصناعيون الى التحدث فيما بينهم أو مع السياسيين فانهم سيصرون على الاتفاقات الشفوية، التي يتم تأكيدها بالضغط على الأيدي، وعدم وضع أي شيء على الورق أو عبر الاتصال الهاتفي، وعدم وضع أي معطيات عن ذلك على الكمبيوتر. أما إذا بدا الأمر بالنسبة لكم بأنه فيلم تجسسي مبالغ فيه، فقد تكونون على حق على الأرجح، فالحياة الواقعية ستتغلب على هذا التخيّل، لكن هناك مشكلة حقيقية، فقد أعلن أحدهم أنه يتم يومياً في الولايات المتحدة سرقة معلومات، قيمتها تساوي ثمن حاملة طائرات، الأمر الذي يمكن أن تكون له تداعيات جيوبولتيكية، ولذلك لا شك في أن ما هو سري سيصبح أكثر سرية،
وما هو غير مسموح بالوصول إليه سيجري تشديده.
هل تشعر الدول بالإهانة؟
لقد قرأ الكثير من السياسيين الكثير من الأشياء عنهم، وردت في البرقيات الدبلوماسية، والتي لم تسرهم بالتأكيد، فالدبلوماسيون الذين كانوا يبتسمون لهم كتبوا عنهم إلى واشنطن بأنهم لصوص، وبمنزلة باتمان، ومهووسون بأنفسهم، ومنحطون أخلاقياً، وفاسدون، كما أن العديد من الدول لم تكن سعيدة، فبريطانيا مثلاً علمت أن الأميركيين يقيمون جنودها في أفغانستان بأنهم ضعفاء.
صحيح أن السياسيين يؤكدون أنهم يعرفون أن الأميركيين لم يكونوا يقصدون ذلك، لكنهم في الوقت نفسه يصيحون بأن «ويكيليكس» لم يكن مسؤولاً، وأنه يزرع الفرقة بين الأصدقاء.
من المؤكد أن الإنسان يستطيع أن يكون هادئاً هنا، لأن الأمر سيسوى بشكل سهل. فالدول من الممكن أن يكون لها أصدقاء، لكن الشيء الرئيسي الذي يبقى هو مصالحها، وكي تستطيع متابعة هذه المصالح، فإنها تبلع كل شيء، ويقوم السياسيون بقراءة البرقيات الدبلوماسية، ومن المؤكد أنها ملونة وصريحة بشكل غير رحيم كالبرقيات الأميركية، غير أنه من جهة أخرى فإن الإهانات العلنية تمت، والدول تعرف دائماً كيف تجعل الطرف الثاني يأكل ذلك يوماً ما، الأمر الذي يجري حتى داخل الاتحاد الأوروبي مثلاً، فالانتقام هو أمر مذاقه حلو حتى على مستوى الدول.
نهاية الدبلوماسية؟!
لقد صدر العويل الأكبر من الدبلوماسيين، بأن هذا الأمر يمثل النهاية للدبلوماسية التي نعرفها الآن، فهل نصدق ذلك؟
صحيح أن الدبلوماسيين يشتكون الآن بأن ما من أحد يريد التحدث إليهم، لأن كل شخص بات يلتزم الحذر، وبعض الدبلوماسيين الأميركيين يزعمون أن إصلاح ما جرى سيستغرق أعواماً. أما الأقوال الأكثر واقعية، فتقول، إن الأمور ستعود إلى مجاريها القديمة قريباً، فالناس يحبون الثرثرة، لكنهم ينسون بسعادة، غير أن هناك شيئا أكثر أهمية وهو أن ويكيليكس أطلق صاروخا على السياسة الخارجية التي تعتبر شيئا يجب على الرأي العام عدم دس أنفه فيه، فقد تم الاعتراف للمواطنين بالحق في الاطلاع على التفاصيل حول أداء الدوائر الحكومية وقضايا الفساد والخطط، أما السياسة الخارجية فكانت على الدوام تعتبر بمنزلة النادي المغلق على الشباب الذين يرتدون اللباس الرسمي والذين يلعبون لعبتهم من أجل أنفسهم.
إن الأمر لا يتم على هذا الشكل حقيقة، وهو ما ظهر بشكل جيد من خلال البرقيات الدبلوماسية من أفغانستان، حيث جرى وصف كارازي على أنه فاسد ومهووس بنفسه، ولكن أليس هو نفسه الذي كان يقول السياسيون عنه إنه رجل دولة رائع، أما الحقيقة السرية فكانت مختلفة؟!
تناقضات الإنترنت الساخرة
وبالمختصر، فإن القضية كلها حول موقع ويكيليكس تشير إلى المدى الكبير لتغير عالم المعلومات، اما المختص السياسي الفرنسي بيار بولير، فقد لاحظ «التناقض الساخر»، فالانترنت الذي ولد خلال الحرب الباردة كي يساعد في حال تعرض الولايات المتحدة لهجوم نووي في مكافحة حدوث فوضى والإبقاء على مركزية سلطة الدولة فجرى إعداده بالشكل الذي ليس فيه تدرج ومراكز ومديرين، لكن بسبب الإنترنت تحديدا وهيكليته فإن سلطة الدولة الآن تتآكل.
إن الإنسان، وتحت الانطباع بأن ما يتم هو احداث مباشرة، لديه ميل دائم الى القفز نحو النتائج، ولهذا فإن الامر قد يكون جيدا حتى في حال تداعيات ويكيليكس التقسيم الى قسمين، لكن بالتأكيد فإن شيئا ما يجري بعد النشر.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.