يكمن التحدي الرئيسي لرئاسة ترامب في تحويل الولايات المتحدة من موقعها كإمبراطورية إلى دولة قوية تتمحور على مصالحها الوطنية.
يُدرك ترامب جيداً أن عصر الهيمنة الأمريكية كإمبراطورية قد ولّى، لأن تكلفة الحفاظ على هذه الهيمنة أصبحت تفوق الفوائد التي تجنيها.
وفي يوم 7 أبريل 2025، ارتكب خطأً فادحاً عندما أعلن علناً رفضه تخفيف التعريفات الجمركية التي فرضها، رغم تزايد الضغوط الدولية.
بل تجاوز ذلك إلى حد التصريح لاحقاً في الأسبوع بعبارته الشهيرة الوقحة: “العالم يتوسل إليّ للحصول على اتفاقيات تجارية”.
وبدءاً من يوم الإثنين 7 أبريل، شهدت الأسواق ارتفاعاً في أسعار الفائدة طويلة الأجل، بينما أعلنت الصين موقفاً حازماً بأنها لن تسمح بانتهاك سيادتها، وأنها ستواصل مواجهة سياسات ترامب حتى النهاية.
وفي 9 أبريل، تراجع ترامب عن موقفه معلناً تجميد التعريفات الجمركية العالمية لمدة 90 يوماً، باستثناء تلك المفروضة على الصين.
لكن النتيجة النهائية أصبحت واضحة: ترامب قد انهزم. ومن هذه اللحظة، يمكن اعتبار الفصل الأخير من هذه القصة منتهياً، وسأشرح لكم الأسباب الكامنة وراء ذلك.
@ طالع أيضا: “المعضلة الإجتماعية”.. وثائقي يكشف خطر وسائط التواصل الإجتماعي!
يُدرك ترامب جيداً أن عصر الهيمنة الأمريكية كإمبراطورية قد ولّى، لأن تكلفة الحفاظ على هذه الهيمنة أصبحت تفوق الفوائد التي تجنيها. الهدف الأساسي لرئاسته هو إدارة مرحلة الانتقال من إمبراطورية آفلة إلى دولة قوية تتمحور حول مصالحها الوطنية.
وتتمثل الخطة في النقاط التالية:
– عندما تكون دولة ما إمبراطورية بعملة احتياط عالمية، يمكنها تحمل العيش بعجز دائم، لأن المجتمع الدولي يكون مستعداً لتمويل هذا العجز مقابل الامتيازات التي تمنحها الإمبراطورية.
لقد استفاد العالم من الهيمنة الأمريكية بطريقتين رئيسيتين:
أولاً: من خلال النظام المالي المتطور الذي مكّن العالم من إجراء المعاملات التجارية بكفاءة عالية، حيث كان الدولار مقبولاً كعملة تسوية نهائية في جميع أنحاء العالم.
لكن الخطأ الفادح للولايات المتحدة كان في تسييس هذه الميزة من خلال فرض قوانينها على المعاملات الدولارية خارج أراضيها.
ثانياً: من خلال القوة العسكرية التي كانت تعتبر بمثابة “شرطي العالم”. لكن المشكلة تكمن في أن الولايات المتحدة قد خسرت جميع الحروب التي خاضتها منذ تسعينيات القرن الماضي، بدءاً من العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا، وصولاً إلى الحرب الأوكرانية الأخيرة.
لم يعد خافياً على أحد أن روسيا قد واجهت المنظومة العسكرية الأمريكية-الأوروبية وصمدت بصلابة، لدرجة أن الجميع يقر الآن باستحالة استعادة الأراضي الأوكرانية التي خسرتها.
أصبحت الولايات المتحدة عاجزة عن حماية حلفائها أو إرهاب قوى المنافسة.
والمشكلة الأكبر أن فقدان هذه المقومات الإمبراطورية، سواء القوة العسكرية أو الهيمنة المالية، يجعل العجز المالي والتجاري يهددان مباشرة أساس القوة الأمريكية، ألا وهو قيمة الدولار.
لم يعد خافياً على أحد أن روسيا قد واجهت المنظومة العسكرية الأمريكية-الأوروبية وصمدت بصلابة، لدرجة أن الجميع يقر الآن باستحالة استعادة الأراضي الأوكرانية التي خسرتها.
بناءً على هذه المعطيات، أدرك ترامب عند توليه الرئاسة ضرورة تنفيذ ثلاث إجراءات أساسية:
1. خفض العجز المالي الداخلي، خصوصاً من خلال “مشروع دودج” الذي يقوده إيلون ماسك.
2. الانسحاب من الحرب الأوكرانية التي تعتبر خسارة مؤكدة، ووقف الهدر المالي غير المبرر.
3. فرض سلسلة من التعريفات الجمركية لتصحيح الميزان التجاري مع مختلف دول العالم، لأن استمرار تسرب رؤوس الأموال يعني الموت البطيء للدولار على المدى الطويل.
كان من الضروري تنفيذ هذه الإجراءات خلال المئة يوم الأولى من الرئاسة، لأن أي تأخير في إعطاء الزخم اللازم سيؤدي إلى تعثر هذه السياسات، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات النصفية وفقدان الشرعية السياسية التي حصل عليها من الانتخابات الرئاسية.
إلى اليوم، حقق “مشروع دودج” بقيادة ماسك توفيرا ماليا حوالي 150 مليار دولار، على طريق تحقيق تريليون دولار بنهاية العام. لكن فقط 60 إلى 80 مليار دولار من هذه التوفير تعتبر توفيرا مستداما من النفقات الجارية، بينما تأتي البقية من عمليات بيع ممتلكات غير مستغلة.
@ طالع أيضا: The great game
لكن التحدي الحقيقي لترامب ظهر هذا الأسبوع في مواجهته مع الصين حول التعريفات الجمركية.
في الواقع، عندما أعلن عن فرض ضرائب على الواردات من مختلف دول العالم، كان ذلك متسقاً مع خطابه حول نهاية عصر الإمبراطورية. كانت الخطة الذكية تتمثل في الاستفادة من آخر أيام الهيمنة الأمريكية لإجبار أكبر عدد ممكن من الدول على القبول بشروطه.
لكن عندما أهان 70 دولة بتصريحه “العالم يقبّل …”، وتحدّته الصين علناً بعد تصعيده للتعريفات الجمركية، كان ذلك إهانة لا يمكن تجاهلها.
وفي 9 أبريل، اضطر للاستسلام تحت ضغوط خارجية وداخلية من حزبه الجمهوري، معلناً تجميد التعريفات الجمركية لمدة 90 يوماً.
وقع ترامب في فخ الثقة المفرطة، واليوم لن يخضع له سوى الاتحاد الأوروبي وبعض الحلفاء التقليديين. بينما أرسلت الصين رسالة واضحة للعالم بأن الولايات المتحدة لم تعد قوة مخيفة…
كما وصف تيد كروز، السيناتور عن ولاية تكساس والمقرب من ترامب، هذه اللحظة بأنها فرصة ضائعة.
للأسف، وقع ترامب في فخ الثقة المفرطة، واليوم لن يخضع له سوى الاتحاد الأوروبي وبعض الحلفاء التقليديين. بينما أرسلت الصين رسالة واضحة للعالم بأن الولايات المتحدة لم تعد قوة مخيفة، فهي تخسر حروبها، وعملتها لم تعد محمية، وقد أقرت بنفسها بأن إمبراطوريتها أصبحت من الماضي.
تظهر مؤشرات الأسواق هذا التحول جلياً. صحيح أن الأسهم شهدت انهياراً كبيراً، وهذا منطقي لأن التغيرات السياسية تتطلب من العديد من الشركات إعادة هيكلة سلاسل إنتاجها.
لكن الأكثر أهمية هو ارتفاع عوائد السندات الأمريكية لمدة 30 عاماً، مما يشير إلى ابتعاد المستثمرين عن الدولار، لأن العالم لم يعد يرى في أمريكا القوة القادرة على فرض إعادة هيكلة التجارة العالمية.
@ طالع أيضا: كابوس ترامب.. نداء أخير لعرب أمريكا..!
الخلاصة واضحة: الدولار في خطر، لأن ترامب فشل في إدارة مرحلة الانتقال من الإمبراطورية إلى الدولة القومية بسلاسة.
في الأيام والأسابيع المقبلة، سيكون السؤال المحوري الذي يشغل العالم (باستثناء بروكسل والأنظمة الخليجية) هو أنه في نهاية الأمر ، التخلص من الدولار خطوة جيدة، لكن الأهم الآن هو بناء الاستقلال الصناعي بعيداً عن الولايات المتحدة التي لم تعد شريكاً موثوقاً أو قادراً على تقديم الحماية العسكرية.
بالنسبة لنا كمسلمين وعرب، نهاية الإمبراطورية الأمريكية تعني نهاية الوصاية على الأنظمة المجرمة التي حكمتنا لعقود ما بعد الاستعمار المباشر.
هذا التحول سيستغرق وقتاً، لكننا سنشهد عودة كميات كبيرة من الدولارات إلى الداخل الأمريكي، كما ستواجه الشركات التكنولوجية الكبرى منافسة شرسة من دول البريكس التي تسعى لتحقيق الاستقلال الصناعي.
باختصار، القطاع الخاص الأمريكي المربح وقطاع الطاقة سيحافظان على مكانتهما رغم التقلبات قصيرة الأجل. لكن السندات الأمريكية (المدخرات النقدية للأمريكيين) والعقارات تواجه مخاطر جسيمة، لأن تصحيح العجز سيأتي حتماً عبر تخفيض قيمة العملة.
بالنظر إلى الجانب المشرق، كانت الولايات المتحدة تتجه نحو الهاوية بسبب عجزها المتفاقم وفقدانها للنفوذ العسكري. لقد عجل ترامب بهذه النهاية، وهو في النتيجة أمر إيجابي.
@ طالع أيضا: ترامب VS زيلينسكي: المشادة الكلامية الساخنة كاملة
نعم، كان بإمكانه تحقيق صفقة أفضل لو كان أقل جشعاً وتكبراً. لكن المؤكد هو أن التعديل النقدي للدولار سيسمح بانتعاش الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل.
أما على الصعيد العالمي، فإن تراجع نفوذ ترامب يمثل فرصة للدول لتحقيق المزيد من الاستقلالية والسيادة لدول كثيرة فقدت سيادتها لصالح القرار الأمريكي.
في فرنسا مثلاً، نجد أن إيمانويل ماكرون – مثل أورسولا فون دير لاين في المفوضية الأوروبية – ينتميان إلى جيل “القادة العالميين الشباب” الذين تلقوا تكويناً أمريكياً.
ومع زوال الدعم الأمريكي، سيواجه هذا الجيل من السياسيين مصيراً محتوماً، لأن الإمبراطور الأمريكي لم يعد موجوداً ليدعمهم.
لقد بدأت هذه التحولات بالفعل مع إلغاء ترامب لتمويلات خارجية مثل “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” التي كانت أداة للنفوذ الأمريكي.
نهاية الإمبراطورية الأمريكية تعني نهاية “الثورات الملونة”، ونهاية هيمنة الطبقة الإعلامية الموالية، ونهاية المؤسسات الدولية التي كانت مجرد صدى للفكر الأمريكي.
وأهمهه بالنسبة لنا كمسلمين وعرب، نهاية الوصاية على الأنظمة المجرمة التي حكمتنا لعقود ما بعد الاستعمار المباشر.
نحن ندخل عالماً جديداً، أكثر تقلباً وأقل تدخلا غربياً.
@ طالع أيضا: هكذا “تسرق” الوسائط الرقمية وقتك، وأيضا “إنسانيتك”؟!
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.