عناوين فرعية
-
من "كل رجال الرئيس" إلى "سبوت لايت"..
فيما يلي مقال صحفي مفيد، قد ينفع القراء والمختصّين، في الاطلاع على مدى تأثير الصحافة الاستقصائية (صحافة التحقيقات) في الأحداث، مهما كانت صغيرة أو كبيرة.
المقال للصحفي عاصم الشيدي، من جريدة “عُمان” بسلطنة عمان، وفيما يلي نصه كاملا:
من “كل رجال الرئيس” إلى “سبوت لايت”.. دروس الصحافة الحقيقية لا تنتهي
تابعتُ الأسبوع الماضي فيلمين اعتبرهما من أفضل ما تابعت في السينما، ليس لأنهما يتحدثان عن مهنة الصحافة فقط التي أعمل فيها، ولكن إضافة إلى الإثارة والإبداع، فقد قدما لي دروسا مهمة في الصحافة، وبشكل خاص الصحافة الاستقصائية.. دروسا مجانية وصلت بشكل عملي وأنا جالس في بيتي وبكامل متعتي البصرية.
الفيلم الأول الكاشف “Spotlight”، الذي تدور أحداثه في غرفة التحقيقات الاستقصائية بجريدة “بوسطن غلوب” العريقة، حيث يعمل فريق “سبوت لايت” المكون من أربعة صحفيين بارعين، على تحقيق صحفي سيحتاج منهم أكثر من عام كامل لإنجازه، لكنه حين نشره سيهز العالم أجمع وليس مدينة بوسطن أو أمريكا فقط.. وهو حول الانتهاكات الجنسية التي كان يتعرض لها أطفال الكنيسة الكاثولوكية.. الفيلم أنتج في نوفمبر الماضي وحصد جوائز الأوسكار.
أما الفيلم الثاني فهو فيلم قديم يعود إلى منتصف سبعينات القرن الماضي، يتحدث عن أشهر فضيحة سياسية في تاريخ الولايات المتحدة فضيحة “ووترغيت”. حيث يستطيع صحفيان يعملان في جريدة “واشنطن بوست” هما كارل برنستين وبوب ودوارد، كشف تفاصيل تجسس الرئيس الأمريكي نيكسون على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت على خلفية فوزه في منافسات إعادة الانتخابات بصعوبة بالغة، وأدت الفضيحة لاحقا إلى استقالة الرئيس الأمريكي نيكسون.
المدهش إن الصحفي الأمريكي الشهير بن برادلي كان أحد أبطال فضيحة ووترغيت، حيث كان رئيس تحرير جريدة “واشنطن بوست”، فيما سيكون ابنه بن برادلي جونيور أحد أعضاء فريق التحقيق في “سبوت لايت” بصحيفة “بوسطن غلوب”. ولا بد من التذكير إن أحداث الفيلمين واقعية بنسبة تصل إلى 100 بالمائة.
يعتبر الجميع أن فيلم “كل رجال الرئيس” مرجع مهم في عالم الصحافة الاستقصائية.. كما كشف أهمية احترام القيم الصحفية.. فلم يذكر التحقيق الصحفي أو الكتاب أو الفيلم هوية المسؤول الأمني الذي مد الصحفيين بالتفاصيل واكتفى باسم “الصوت العميق”.
تبدأ قصة الفيلم الأول “سبوت لايت”، الذي أخرجه “توم ماكيري” وكتبه “جون سينجر” من غرفة اجتماعات التحرير، حيث يجتمع رئيس التحرير الجديد لجريدة “بوسطن غلوب” مارتي بارون برئيس فريق التحقيقات في الجريدة بارتي روبنسون ويسأل رئيس التحرير عن أهم القضايا التي يمكن للجريدة أن تناقشها.. ويدور حوار حول الأمر، يسأل بعده رئيس التحرير حول ما إذا كان أحد قد قرأ مقالا نشرته جريدة مغمورة في بوسطن يتحدث عن تحرش كاهن بأطفال صغار.. وهو السؤال الذي يستغرب منه البعض من حيث أنه منشور في جريدة مغمورة ومن كاتب مغمور.. لكن القضية التي ناقشها المقال ستتحول لاحقا إلى واحد من أشهر التحقيقات الصحفية وقد كلف الفريق بالبحث وراءها في ذلك الاجتماع، الذي كان الأول لرئيس التحرير في “بوسطن غلوب”.
تبدأ القضية إذن من مقال رأي في صحيفة مغمورة حول تحرش كاهن بأطفال في ست أبرشيات مختلفة خلال ثلاثين عاما. ورغم اعتبار البعض الموضوع لا بأس فيه، وقد تناولته الجريدة من قبل، إلا أن خبرة رئيس التحرير وحنكته رأت في الأمر ما يستحق أن يتفرغ فريق التحقيقات له ويعطوه كامل اهتمامهم.
وفي سرية تامة عمل الفريق القابع في غرفة التحقيقات في سرداب الجريدة على جمع معلومات التحقيق بتفاصيل دقيقة.. وفي الحقيقة هنا يكمن الدرس الذي قدمه الفيلم للصحفيين.
كان الصحفيون الأربعة حريصين جدًا على جمع كافة المعلومات التي تخص تحقيقهم. من خلفيات تاريخية أعادتهم لمراجعة أدلة صادرة عن الكنيسة، توثق تفاصيل عشرات السنوات وقصاصات صحفية كانت حول أخبار متعلقة بالكنيسة لسنوات طويلة. وجمع معلومات من المحاكم ومقابلة أشخاص يتم إطلاعهم على الهدف من المعلومات التي يدلي بها للصحفي.
كان رئيس التحرير حريصا على أن يستوفي التحقيق كافة أركانه وكافة معلوماته، لأنه يعرف أنه سيكون في مواجهة مع الكنيسة “المؤسسة الدينية”، ولذلك كثيرا ما توقف عن النشر وطالب بالمزيد من المعلومات والمزيد من التفاصيل حتى يقتنع أن الموضوع قد تم استيفاؤه بشكل لا يضع قصتهم/ تحقيقهم في موضع الشك أو محاولة التفنيد من قبل الكنيسة.
والتحقيق الذي انطلق من خبر حول كاهن اغتصب وتحرش بالعديد من الأطفال طيلة ثلاثين سنة، تطور ليبحث وراء 13 كاهنا متهمين بالتحرش والاغتصاب، ثم يستمر التحقيق والبحث ليصل الفريق إلى قناعة بأن العدد يفوق ذلك بكثير، وهو ما يتعدى أكثر من ثمانين راهبا.. وفي هذه اللحظة المفصلية من التحقيق يقرر الجميع عدم النشر، ليس لأنهم اكتشفوا أن معلوماتهم مغلوطة أو ناقصة بل لأنهم اكتشفوا أن الأمر أكبر من مجرد كهنة مغتصبين إلى أمر متعلق بالكنيسة نفسها.. الكنيسة التي تجيز الاغتصابات ولا تفعل إزاءها أي شيء غير نقل الكاهن من “أبرشية” إلى أخرى. وهذا ما كشفه التحقيق بكل دقة وبكل الوثائق التي لا تقبل الشك أو المراجعة.. ووضعت الحقيقة أمام القراء كاملة بكل تفاصيلها. وفي الصباح كانت الجريدة وجها لوجه مع الكنيسة الكاثوليكية.
ولأن التحقيق من التحقيقات الخالدة فإنه لم ينته فور نشره، ولم يكتف بالضجة التي أثيرت حوله، ولكنه واصل نشر أكثر من 600 قصة حول ضحايا تلك الاغتصابات والتحرشات التي كان ضحيتها الأطفال “بعضهم أصبحوا رجالا كبارا لديهم أسر ولكنهم يعيشون مشاكل نفسية كبرى”. وارتفع عدد الكهنة الذين وجهت لهم التهم أكثر إلى 249 كاهن علنا بتهمة التحرش الجنسي داخل أبرشية بوسطن، بينما كشف التحقيق لاحقا عن أكثر من 100 أبرشية وقعت فيها حالات اغتصاب، وحالات مشابهة في أكثر من ثلاثين دولة حول العالم.
***
أما الفيلم الثاني فيحكي تفاصيل أشهر فضيحة فساد سياسية في أمريكا.. فضيحة ووترغيت، التي كان بطلاها كارل برنستين وبوب وودوارد، وكانا يعملان في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية مطلع السبعينيات من القرن العشرين. تمكَّن الصحفيَّان – بالدلائل والبراهين – من إثبات تورط الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1972 في محاولة التنصت على المكتب الرئيسي للحزب الديمقراطي المنافس لحزبه (الحزب الجمهوري) حول حملة الانتخابات الخاصة بتجديد منصبه لفترة رئاسية ثانية.
والفيلم الذي أخرجه ألان جي بكولا، قدم هو الآخر درسا مهما وأساسيا في العمل الصحفي. يسرد الفيلم تفاصيل دقيقة جدا لقصة حقيقية مستوحاة من التحقيقات الصحفية التي نشرتها “واشنطن بوست”، والتي تحولت لاحقا إلى كتاب حمل عنوان “كل رجال الرئيس” والذي حمل الفيلم اسمه.. وبدأت الحكاية من خبر حول سرقة صغيرة في مبنى مكاتب ووترغيت لكن القصة لم تنته إلا عندما وصلت إلى البيت الأبيض.. وتحقيقات في مجلس الشيوخ انتهت باستقالة نيكسون.
وعبر ظروف صعبة جدا في الحصول على المعلومات، بدأ الصحفيان العمل والنحت في الصخر من أجل جمع المعلومات ومحاولة ربطها ببعضها وفهم الحكاية.. وكانت هناك شخصية تعمل في “مكتب التحقيقات الاتحادي” وحملت في الفيلم اسم “الصوت العميق”، ظلت طي الكتمان حتى عام 2005، حينما كشف عنها لأول مرة النقاب ليعرف العالم أنه مارك فيلت مساعد مدير مكتب التحقيقات الاتحادي، ساهم كثيرا في كشف الكثير من ملابسات القضية وإيصال المعلومات للصحافة ووضعها في نصابها الصحيح من أجل مصلحة البلاد واحترام دستورها.
لكن المتأمل في الفيلم يجد أنه كان يقدم درسا عميقا في طرق التحقيق الصحفي وكيفية الحصول على المعلومات أكثر من الاهتمام بسرد تفاصيل قصة الفضيحة. ويجد المتابع نفسه يعيش التفاصيل مع طاقم الفيلم، الذي تم تصويره في مكاتب الجريدة لإضفاء المزيد من المصداقية.. وتدور الكاميرا وسط أكوام من الورق والآلات الكاتبة ودقات حروفها والفوضى في قاعة تحرير نشطة ترقب التفاصيل في العشرات من القضايا في أمريكا والعالم.
وركزت حبكة الفيلم على الجهود التي بذلها الصحفيان وعلى أسلوبهما في استقصاء المعلومات وربطها ببعضها البعض.
تبدأ القضية إذن من مقال رأي في صحيفة مغمورة حول تحرش كاهن بأطفال في ست أبرشيات مختلفة خلال ثلاثين عاما. ورغم اعتبار البعض الموضوع لا بأس فيه، وقد تناولته الجريدة من قبل، إلا أن خبرة رئيس التحرير وحنكته رأت في الأمر ما يستحق أن يتفرغ فريق التحقيقات له ويعطوه كامل اهتمامهم.
ونرى خلال أحداث الفيلم بعض قواعد الصحافة الاستقصائية، كالعمل بروح الفريق، وإطلاع المحرر المسؤول على التفاصيل أولا بأول والاستنارة برأيه.
لم يكن رئيس التحرير، وهو هنا العملاق الكبير بن برادلي عاديا.. كان صارما وقاسيا جدا لأنه يعرف نوعية القضية التي يتناولها، لكنه في الوقت نفسه كان في صف زملائه متى ما كانت المعلومات التي يحصلون عليها دقيقة وتتصف بالمصداقية.
ويعتبر الجميع أن فيلم “كل رجال الرئيس” مرجع مهم في عالم الصحافة الاستقصائية.. كما كشف أهمية احترام القيم الصحفية.. فلم يذكر التحقيق الصحفي أو الكتاب أو الفيلم هوية المسؤول الأمني الذي مد الصحفيين بالتفاصيل واكتفى باسم “الصوت العميق”.
ومن خلال الفيلمين يمكن القول إن الصحافة الاستقصائية ليست تسريبات ومعلومات تصل للصحفي وينشرها في اليوم التالي، بل هي رحلة بحث وتقصّ وجمع معلومات للوصول إلى الحقيقة كاملة ووضع الوثائق التي تؤكد القضية التي تطرحها الصحيفة.
لكن لا بد من القول إن الصحيفتين في التحقيقين لم تكن لتنجح لولا وجود مستوى عال من الديمقراطية ومن الحرية الصحفية في أمريكا ومن وجود قوانين نافذة في مجال انسياب المعلومات. فيمكن أن تتوافر لدى الصحيفة الإرادة في النشر والعمل المهني ويتوافر لديها الصحفي الذي يمتلك أدوات الصحفي الاستقصائي، ولكن تواجهه عقبات كثيرة تحول دون نشر تحقيقه أو اكتمال معلوماته بسبب عدم وجود تشريعات تتيح للصحفي الحصول على المعلومات التي يريدها.
يبقى الفيلمان مهمان لكل صحفي.. وهذا ليس ترويجا للفيلمين “لمَ لا؟”، ولكن دعوة للاقتراب من القيم الصحفية والأساليب التي أوصلت بوب ودوارد ورفيقه إلى العالمية وأوصلت كذلك فريق “الكاشف” إلى ما وصل إليه في جريدة “بوسطن غلوب”.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.