إن ما نسعى إليه في هذه المقالة هو معرفة ما إذا كان إستقلال الجزائر الذي نحتفل بمرور خمسين سنة عليه قد أدى إلى خلق مجتمع خال من مواصفات المجتمع الكولونيالي الذي عانى منه الشعب الجزائري خلال قرن و ربع قرن من الزمن. من اللافت للنظر أن من درسوا المجتمع الكولنيالي دراسة منهجية معمقة ليسوا جزائريين، بالرغم من أن تجربة الإستعمار الفرنسي في الجزائر هي من أبشع أنواع الإستعمار في العصر الحديث.
إن المراجع الأولى لمن يريد التمعن في الظاهرة الكولونيالية هم مفكرون مثل فرانز فانون Franz Fanon و ألبير ميمي Albert Memmi و بهابها Bhabha و إدوارد سعيد Edward Said وغيرهم. و قد كان هؤلاء ينحدرون من مجتمعات عانت بدورها من الظاهرة الإستعمارية. و يبدو لنا أنه من الأهمية بمكان دراسة المجتمع الكولونيالي إذا ما أردنا بناء مجتمع لا يعيد إنتاج الكولونيالية بهذه الطريقة أو تلك.
فالكولونيالية، لاسيما في الجزائر، لا تنحصر تجلياتها و ماهيتها فقط في كونها احتلال أجنبي عسكري و استيطاني بحيث أنه يكفي الحصول على الإستقلال للقول بأن المشكلة حلت بصورة جذرية و نهائية و أسسنا مجتمعا قطع كل صلة له بمجتمع ذي طبيعة كولونيالية. إن الكولونيالية هي أيضا ممارسات سياسية و إدارية و قانونية و اجتماعية و ثقافية و اقتصادية قائمة على القوة و السيطرة، أي تنظيم للمجتمع قائم على مبدأ الغلبة على مختلف الأصعدة. و عليه فإنه يمكن الحصول على الإستقلال و تسود مع ذلك في المجتمع ما بعد الكولونيالي نفس ممارسات المجتمع الكولونيالي.
الكولونيالية كشكل من الفاشية
و ينبغي التوضيح هنا أن المجتمع الكولونيالي يختلف كلية عن مجتمع المتربول من حيث التنظيم و القوانين و القيم و السياسية و هلم جرا. و بمعنى آخر فإن المجتمع الكولونيالي الفرنسي في الجزائر غير المجتمع الفرنسي في فرنسا على الرغم من أن الجزائر كانت تعتبر قطعة من فرنسا. من هنا نفهم لماذا كانت المباديء السارية في مجتمع المتربول كحق المواطنة و المساواة أمام القانون و الديمقراطية و العلمانية وما إلى ذلك من المباديء التي تتأسس عليها المجتمعات الغربية الحديثة لا نجد لها أثرا في المجتمع الكولنيالي كما عرفته الجزائر، بل و كما عرفته أيضا البلدان المستعمرة الأخرى، رغم أن الجزائر كانت تعتبر قطعة من فرنسا، كما سبق و أن ذكرنا. فالمجتمع الكولونيالي في الحقيقة هو الوجه الفاشي، أو الإستبدادي كما نقول اليوم في العالم العربي، لمجتمع الميتربول، أو لديمقراطيات البلدان الغربية الإستعمارية على وجه العموم. يقول أ. ميمي في كتابه “Portrait du colonisé, Portrait du colonisateur ” :” ما هي الفاشية إن لم تكن نظام قهر لصالح البعض؟ الحقيقة أن الماكينة الإدارية و السياسية للكولونيالية ليس لها أية غاية أخرى.” فالمتربول لم تعمل قط من أجل تعميم مبادئها و قيمها الجمهورية في المجتمع الكولونيالي. فهذا الأخير لم يكن مرتبطا بها عضويا من حيث طريقة التنظيم و من حيث القوانين و من حيث القيم. و إذا ما استثنينا طابعه كاحتلال أجنبي، يبدو نظام المجتمع الكولونيالي أشبه ما يكون بأنظمة الإستبداد المحلية التي قامت بعد الإستقلال. فما كان يميز المجتمع الكولونيالي القائم على وجود مستعمرين ( بكسر الميم) و مستعمرين ( بفتح الميم) من فقر و فساد و استبداد يمثل أيضا طابع مجتمع ما بعد الإستعمار. لهذا السبب يفترض أ, ميمي “أن الميكانيزمات التي تتحكم في مجتمعات ما بعد الإستعمار و مجتمعات الإستعمار، إذا ما وضعنا جانبا بعض الخصوصيات، هي نفسها نسبيا.” و نتيجة لذلك لا نستغرب أن نلاحظ في السنوات الأخيرة في أدبيات الإعلام العربي ظهور مفهوم ” الإستعمار الداخلي” إشارة إلى ظاهرة تعويض المستبد الأجنبي بالمستبد المحلي أو الداخلي، التي آلت إليها مرحلة ما بعد الكولونيالية، أو على الأقل إشارة إلى وجود وجه شبه بين النظامين. و لعل أحد عوامل عدم تأثر أنظمة ما بعد الإستقلال بإيجابيات النظام السياسي القائم في المتربول مرده إلى أن البلدان المستعمرة احتكت بالدرجة الأولى بالمجتمع الكولونيالي ذي الطابع الإستبدادي، كما أسلفنا.
فالنظام السياسي الذي قام بعد الإستقلال تعامل مع الظاهرة الإستعمارية بصفتها وجودا أجنبيا و احتلالا و ليس أيضا كنظام له ممارساته السياسية و القانونية و الإقتصادية المتميزة في مجملها بالظلم و القهر و التعسف. لهذا السبب برز، كما أسلفنا، مفهوم “الإستعمار الداخلي” تعبيرا عن إعادة إنتاج الكولونيالية كسلوك و ذهنية في مرحلة ما بعد الإستقلال.
بعض مظاهر الكولونيالية الجديدة
ولعل الممارسة السياسية المميزة لمرحلة ما بعد الإستقلال تمثل أحد أبرز أوجه الشبه مع الممارسات الكولونيالية. فإنكار و تجاهل الإرادة الشعبية التي طبعت حكم ما بعد الإستعمار من خلال تزوير الإنتخابات و ما سواها ليس من ابتكار مرحلة الإستقلال، بل يمثل أحد تقاليد المجتمع الكولونيالي. و يؤكد المؤرخون المختصون بهذه الحقبة من تاريخ الجزائر أن الإنتخابات في الفترة الكولونيالية كانت تتميز عموما بالطابع الإقصائي و بالتزوير و الفساد، أي بتدخل الإدارة الكولونيالية في تحديد نتائجها. يذكر بهذا الصدد الحقوقي الجزائري المعروف يحي عبد النور أن التزوير الإنتخابي بدأ في الجزائر في ابريل 1948 حينما عمدت الإدارة الكولنيالية، و على رأسها الحاكم العام للجزائر في تلك الأيام، الإشتراكي إيدموند نايجليلين Edmond Naegelen إلى تزوير الإنتخابات لتعيين أعضاء الجمعية الجزائرية Assemblé Algériennne . لقد كانت الإنتخابات في العهد الكولونيالي، كقاعدة عامة، لا تفرز سوى فائزين فرنسيين يدافعون عن مصالحهم و عن مصالح الكولون بصورة عامة. لقد كان الشعب الجزائري الذي كان يبلغ تعداده في تلك الأيام 9 ملايين نسمة مقصيا من هذه الإنتخابات لفائدة الأقلية الأوروبية البالغ عددها مليون و نصف. من خلال استمرار العمل بمبدأ تزوير الإنتخابات في مرحلة ما بعد الإستقلال استمر تهميش الشعب الجزائري و إنكار إرادته و خياراته كما في العهد الكولونيالي. و إذا كان صحيحا، كما يذكر المؤرخون، أنه كان يحدث أن تسفر الإنتخابات الكولونيالية عن “فوز” جزائريين، فقد كان هؤلاء لا يعبرون عن إرادة الشعب و إنما عن مصالحهم الضيقة و بالدرجة الأساس عن مصالح أسيادهم الذين زوروا لهم. لهذا السبب كان يعرف هؤلاء باسم ” Beni Oui-oui”. و يمكن القول أن نواب “غرفة التسجيل” التي يلقب بها البرلمان الجزائري بعد الإستقلال هم ورثة هؤلاء ال ” Beni oui-oui” ، فهم بدورهم، كما يعرف الجميع، ليس لهم من وظيفة سوى قول كلمة نعم ورفع اليد علامة الموافقة و التأييد لإرادة الحكم. لقد كانت الإنتخابات في العهد الكولونيالي ترمي إلى ضمان ديمومة و إعادة إنتاج النظام الكولونيالي و من وراء ذلك ضمان مصالح المستفيدين منه، مثلما كانت الانتخابات في مجتمع ما بعد الكولونيالي ترمي إلى إعادة إنتاج النظام الحاكم و ضمان مصالح المستفيدين منه. و يبدو الشبه أكبر بين المجتمعين بعد خوصصة الإقتصاد ابتداء من ثمانينات القرن الماضي، ذلك أن التوجه الإشتراكي للحكم في مرحلة ما بعد الإستقلال قد يعطي الإنطباع بوجود قطيعة مع نظام المجتمع الكولنيالي على صعيد تنظيم الإقتصاد على الأقل.
عقدة نيرون
ويؤكد ألبير ميمي أن أحد الأساليب التي يستخدمها المستعمر لكسر و تحطيم المستعمر ( بفتح الميم) هو نزع إنسانيته، و ذلك أساسا من خلال حرمانه من حريته. و حسب رأيه، فإن الإنسان الخاضع للإستعمار لا يلعب دورا في تاريخ بلاده و لا يتمتع بواجبات و امتيازات المواطن الطبيعي. و بما أنه لا يشارك في صنع مجتمعه، ينتهي به الأمر، حسب المفكر التونسي الأصل، إلى فقدان عادة المشاركة في صنع التاريخ بل و لا يطالب بذلك أصلا. ولو تأملنا اليوم إنسان ما بعد الإستقلال لما وجدناه مختلفا بشكل جوهري عن الإنسان الذي يتحدث عنه ألبير ميمي. فإنسان ما بعد الإستقلال هو أيضا إنسان مسلوب الحرية ما دام أنه مسلوب الإرادة سياسيا، لا يختار حكامه و لا ممثليه، و بالتالي مقصي بدوره من تحديد مصير بلاده و صنع مستقبله و المشاركة فيه. لذلك فقدت المواطنة في نظره، نتيجة لذلك، كل معنى. فهل نستغرب بعد هذا أن يكون إنسان ما بعد الإستقلال، حاكما أو محكوما، أبعد ما يكون عن الإهتمام بجعل الجزائر تشارك في صناعة التاريخ و في صناعة مستقبلها و مستقبل أجيالها أو إعلاء شأنها بين الأمم، اللهم إلا في مجال كرة القدم، ذلك الأفيون الجديد للشعوب؟ فحكام دولة ما بعد الاستقلال مهمومون بالدرجة الأولى بالدوام في الحكم و بإعادة إنتاجه بما يخدم مصالحهم، هم و ذريتهم، أكثر من انشغالهم بمصير البلد. و المحكومون، من ناحيتهم، لا هم لهم سوى تحقيق الخلاص الفردي بأي ثمن. فإنسان ما بعد الإستقلال هو أيضا قد تم القضاء على إنسانيته شأنه شأن الإنسان المغلوب في المجتمع الكولونيالي. ذلك أن القيم التي صار يعيش عليها إنسان ما بعد ” الكولونيالية القديمة” ، توافقا مع طبيعة نظام ما بعد الإستقلال، هي قيم الغش و الخداع و النفعية الأنانية و الجهوية و الكلانية و الولاء و السطو، و اللامبالاة بمصير الوطن و هلم جرا. و لا بأس من الإشارة هنا على أن الفيلسوف أفلاطون يرى أن كل نظام سياسي يفرز إنسانا على شاكلته.
يقول أ.ميمي ” إن الرداءة هي الخاصية التي نجدها على الوجه الغالب لدى الكولونياليين.” و لهذا ينتهي الأمر بخيرتهم و بأفضلهم، كما يوضح، إلى الرحيل عن المستعمرات. و من المعروف أن الإستيطان الذي أعقب الغزو الفرنسي قد بدأ بالمهمشين في مجتمعهم الأصلي و بالمغامرين و شذاذ الآفاق. و يمكن القول أن الرداءة انتهت بدورها مع مرور الوقت إلى أن تصبح خاصية من خاصيات مجتمع ما بعد الإستقلال، المرحلة التي نعرف أن النجاح و التوفيق لا يرتبطان فيها بالكفاءة و العمل و الإخلاص، و إنما بمعايير الجهوية و الولاء و القرابة و الزمرة و الفساد و الميكيافيلية… الأمر الذي يفسر إلى حد معتبر رحيل و هجرة خيرة ما أنجبه مجتمع ما بعد الإستقلال.
و يرى ميمي أن الكولون ” لا يكتفي قط بانتصاره على أرض الواقع. فلا بد له أيضا أن يضفي على انتصاره الطابع القانوني و الأخلاقي.” و بالتالي نجده يفعل كل شيء من أجل أن يتحول من مغتصب إلى صاحب مشروعية. و يسمي أ.ميمي هذا الإجراء ب”عقدة نيرون”. و الظاهرة نجدها بدورها في مجتمع ما بعد الإستقلال، مثلا في مرجعية ” الشرعية الثورية” أو في شعار ” الحزب العتيد الذي حرر البلاد” من أجل تبرير إبقاء الشعب مجردا، كما في المجتمع الكولونيالي، من حقه في ممارسة سيادته.
وفي مقدمته لكتاب فرانز فانون ” معذبو الأرض”، يقول ج.ب.سارتر إن الكولون يرى بأن المستعمر (بفتح الميم) : ” لا يفهم إلا لغة القوة”. و من هنا نفهم لماذا قام النظام الكولوني على القوة و العنف. و نظام مجتمع ما بعد الإستقلال إذ كان نظاما بوليسيا و أمنيا قام في الحقيقة على نفس الفلسفة و على نفس الرؤية. و من بين ما يمكن أن نفسر به الظاهرة تأكيد أ.ميمي أن إنسان الإستعمار يستبطن و يستوعب الصورة التي يصنعها عنه الكولون بحيث يتماهى معها و يتصرف وفقها في الأخير. و هكذا ينتهي الأمر بثائر الأمس بعد أن يحصل على الإستقلال و يتخلص من سيده إلى أن يؤدي نفس دوره و يتقمص شخصيته و يتبنى حتى لغته. لأجل هذا كله ينبغي إعادة قراءة الكولونيالية و اعتبارها شكلا من أشكال الإستبداد قابل للعودة على هذا الأساس في صورة أخرى غير صورة الأجنبي.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.
تعليق 4185
شكرا دكتور إبراهيم، من أجمل ما قرأت في الموضوع عمقا وجدية.
شكرا لك كثيرا