ردت الجزائر على أعداء الأمة العربية الداخليين والخارجيين بطريقتها، من الذين بادروا إلى تيئيس الشعوب العربية منذ مدة طويلة من انعقاد القمة العربية بالجزائر، عبر الحديث عن “فشل القمة قبل أن تبدأ”، وذلك بإعطاء مؤشرات ودلائل قاطعة على أن القمة العربية الواحدة والثلاثين المنعقدة في الذكرى الـ68 للثورة الجزائرية على أرض الشهداء، والتي تعد أول قمة عربية بلا ورق في تاريخها، قد “نجحت قبل أن تبدأ”.
على الرغم من الصعوبات المعروفة في مثل هذه القمم العربية، وتباين الأجندات السياسية للدول المشاركة، وتزايد نفوذ اللوبي العربي المتصهين الجديد من أنظمة التطبيع الرافضة مبدئيا لأي فعل عربي جاد وصادق نحو الوحدة والمواقف القومية المشتركة.
وقد استطاعت الجزائر باعتراف الأمين العام للجامعة العربية، أحمد أبو الغيط، في أثناء خطابه في افتتاح اجتماع وزراء الخارجية العرب، من ابتكار نهج جديد في التعامل مع التناقضات العربية عبر تمكنها من “إرسال رسالة وحدة وتضامن بين العرب”، والدعوة “لمضاعفة الجهود ككتلة صلبة يجمعها مبدأ وحدة المصير والقيم والالتزامات التي ينطوي عليها ذلك”، وذلك وفق “نهج يتجاوز المقاربات التقليدية للاستجابة لمشاكل الحاضر”، خاصة وأن العالم على شفير حرب نووية مدمرة، ويعرف حالة من الاستقطاب والتكتلات الاقتصادية والعسكرية غير المسبوقة.
ولذلك فقد نجحت الجزائر من حيث أراد لها البعض أن تفشل، في عقد قمة عربية راهن الكثيرون بأي ثمن على إلغائها أو تحويل مقر انعقادها، كما نجحت في تجاوز المؤامرات الكيدية، ومحاولات التشويش التي استمرت إلى آخر لحظة قبيل انعقاد القمة.
ونجحت أيضا في التمهيد لهذا النجاح بتحقيق اتفاق تاريخي للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية، تمكن من استعادة القضية المركزية للأمة مكانتها في أجندة أشغال القمة وحشر المطبعين من العرب في الزاوية، وهم يحاولون زحزحة هذه القضية المقدسة من أي نقاشات عربية خدمة للأجندة الصهيونية.
@ طالع أيضا: لماذا اختارت الجزائر “1 نوفمبر” لعقد القمة العربية؟
ولذلك فهي قد نجحت قبل حتى انعقاد القمة، في تعرية الأنظمة العربية المتواطئة التي تقف حجر عثرة في وجه لم الشمل العربي وتحقيق الوحدة المأمولة بين الشعوب العربية، كما نجحت في كسر الجمود في ملفات اقتصادية كبيرة في مجالات التعاون العربي المشترك سيكون لها ما بعدها من تأثيرات إيجابية على مستوى التكامل الاقتصادي العربي طالما أن موضوع التكامل السياسي تتحكم فيه معطيات داخلية ودولية معقدة للغاية.
إفشال المناورات الكيدية
ويعد نجاح الجزائر في عقد القمة العربية في حد ذاته، انتصارا دبلوماسيا مدويا، بالنظر إلى حجم المؤامرات الكيدية التي تعرضت لها لمنع عقد القمة أو تحويل مقر إقامتها، لخوف بعض الأطراف العربية، خاصة منها تلك التي خالفت الإجماع العربي، وقررت التطبيع الساخن مع دولة الكيان، قبل أن تحل القضية الفلسطينية..
وقد رأينا عبر الشهور الماضية أنواعا وأشكالا من تلك المؤامرات التي كادت أن تعصف بعقد القمة لأسباب مختلفة، منها ما هو ظاهر مثل قضية تمثيل سوريا في الجامعة، والموقف من إيران بالنسبة لدول الخليج، والموقف من تركيا بالنسبة لمصر علاوة على معضلة سد النهضة، وموضوع دعوة العاهل المغربي للمشاركة وغيرها..
ومنها ما كان مستترا ومتعلقا بالتزامات بعض الأنظمة مع وكلائهم الدوليين ممن لا يريدون لهذه الأمة أن ترفع رأسها أبدا.
ورأينا كيف أحبطت الجزائر تلك المناورات التي استمرت لآخر لحظة، على غرار عملية الترويج الرهيبة لأخبار مغلوطة، مفادها مشاركة الجمهورية العربية الصحراوية في أعمال قمة الجزائر، وهو ما ردت عليه الجزائر بالتأكيد أن الجمهورية الصحراوية ليست عضوا في الجامعة العربية، و”أن بوادر نجاح القمة العربية بدأت تُقلق أطرافا تشوش عـلى الجزائر”.
إعادة القضية الفلسطينية للواجهة
ويبرز نجاح الجزائر في إعادة القضية الفلسطينية إلى صلب العمل العربي المشترك، في إصرارها منذ عام كامل، على إنجاح مساعي المصالحة الفلسطينية على أرضها، وهي المهمة الصعبة التي فشلت فيها دول أخرى، لأنها لم تكن تملك الرصيد النضالي الجزائري، ولا الصدق والتجرد الجزائري من أي مصالح أيديولوجية خاصة.
ولم تكتف الجزائر بجهود جبارة بذلتها في هذا المسعى، بإنجاح المصالحة الفلسطينية وحسب، بل عملت على إنشاء لجنة متابعة عربية لتنفيذ بنود الاتفاق، كما تمكنت بفضل حنكة دبلوماسيتها من تجاوز عقبات ضخمة تخص مناورات قادتها إسرائيل لإفشال تلك المساعي، عبر الضغط أولا على السلطة الفلسطينية، وتسريب معلومات مغلوطة عن غضب مصري مفترض من مخرجات اجتماع الفصائل الفلسطينية بدعوى أن الجزائر قد سحبت ملف المصالحة من تحت أقدام مصر.
ولم يتوقف نجاح الجزائر في إعادة القضية الفلسطينية المركزية إلى واجهة العمل العربي المشترك، بل تعدته إلى اعتماد توصية دولة فلسطين الخاصة بدعم الاقتصاد الفلسطيني عبر تخصيص مداخيل رمزية في فواتير الهاتف الثابت والمحمول، في الدول العربية، لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال، مع آليات تضمن فتح أسواق الدول العربية أمام التدفق الحر للمنتجات فلسطينية المنشأ عبر إعفائها من الرسوم الجمركية، وفي مقدمتها الأسواق الجزائرية.
كسر الجمود في ملفات عديدة
ونجحت الجزائر نجاحا باهرا أيضا، في كسر الجمود على العديد من الملفات الاقتصادية والاجتماعية الهامة، خاصة ما تعلق منها باستكمال متطلبات منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وإقامة الاتحاد الجمركي العربي والرؤية العربية للاقتصاد الرقمي، وتحديات الأمن الغذائي والتنمية الزراعية العربية المستدامة 2030 وغيرها.
@ طالع أيضا: ما يجب أن يعلمه الأشقاء العرب؟
إلا أن النجاح الأهم في هذا المجال، هو توفير الشروط اللازمة للشروع عمليا في إصلاح البيت العربي من الداخل، عبر تغيير قوانين الجامعة بحيث تتحول إلى كيان فاعل ومؤثر، يمتاز بالمرونة أولا، وبالتداولية ثانيا سواء في موضوع المقر أو رئاسة الجامعة بحيث يكون لممثل العرب ترؤسها عبر الانتخاب، وليس بحتمية الجنسية المصرية.
تعرية الأنظمة المتواطئة
وسيكتب التاريخ الحديث والمعاصر، أن قمة الجزائر العربية كانت فرصة تاريخية لجزائر الثورة، أن تعري جميع الأنظمة العربية المتواطئة أو المتحالفة مع دولة الكيان الغاصب أمام شعوبها، خاصة تلك التي تآمرت لإفشال القمة من خلال مقاطعة أو تخفيض مستوى التمثيل، أو تلك التي حضرت بتمثيل عال وكان هدفها التشويش وأحيانا ممارسة نفس المهمة القذرة التي عرفت بها للتجسس على أشغال القمة لصالح العدو الصهيوني.
وبينما تبذل الجزائر جهودا جبارة للم الشمل العربي، تنشط أنظمة التطبيع في توطيد علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع “عدو” الأمة الكيان الصهيوني، ومن ذلك أن المغرب وقع على اتفاقيات للدفاع المشترك مع “إسرائيل” وعلى صفقات عسكرية وأمنية تجعل من هذا البلد قاعدة لدولة الكيان في شمال إفريقيا..
في حين وصل الهوان العربي أن شارك في أثناء انعقاد القمة، جنود من جيش الاحتلال الإسرائيليّ من وحدات المظليين مع الجيوش الأمريكية والإماراتية والبحرينية في عملية إنزالٍ مشتركةٍ في البحرين، وهي المرة الأولى التي ينفذ فيها إسرائيليون إنزالا في دولة خليجية، مع نشر بطاريات دفاع جوي من نوع “باراك 8” الإسرائيلية في دولة الامارات، وذلك بمناسبة مرور عامين على توقيع اتفاقيات التطبيع، المعروفة باتفاقيات (أبراهام).
وتطرح القرارات التي اتخذها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قبيل يومين فقط من انعقاد القمة العربية بالجزائر، تساؤلات كبيرة حول صدق السلطة الفلسطينية من توقيع اتفاق المصالحة بالجزائر، حيث أصدر قانونا غامضا مفاجئا، يعزز قبضته على السلطة، يقضي بتشكيل مجلس أعلى للقضاء برئاسة محمود عباس، يحكم من خلاله سيطرته على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وكان قبله قد أصدر قرار إلغاء مرسوم الانتخابات التشريعية، ما أدى إلى غضب بقية الفصائل الفلسطينية، التي تساءلت عن مصير التوافق الوطني الفلسطيني بعد المصالحة التي عقدت بالجزائر، خاصة في ظل توالي الأخبار عن استمرارية التنسيق الأمني بين السلطة والعدو الإسرائيلي لتصفية عناصر مجموعة “عرين الأسود” بدعم مالي أمريكي كبير.
العصر الذهبي للدبلوماسية الجزائرية
وأمام هذه النجاحات الكبيرة، بات من الواضح أن الدبلوماسية الجزائرية تعيش اليوم عصرها الذهبي، كما كتبت صحيفة “لوبينيون” الفرنسية، مشيرة إلى مجمل تلك النجاحات الذي ذكرناها آنفا.
وتعترف مختلف التحاليل المحايدة بأن الدبلوماسية الجزائرية اليوم في عصر الرئيس تبون، تذكر بالمرحلة الذهبية التي عرفتها الجزائر في سنوات حكم الرئيس الراحل هواري بومدين، حيث عاودت الجزائر احتضان قضايا العرب والأفارقة، وضمن منظومة حركة عدم الانحياز أيضا.
بل إن الجزائر اليوم تطمح للعب أدوار دولية متقدمة، ضمن رغبتها في الاندماج مع مجموعة “البريكس”، والتحول إلى رقم صعب في المعادلة الدولية عامة ضمن التموقعات الجديدة التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية.
@ طالع أيضا: صحيفة فرنسية: هل عاد العصر الذهبي للدبلوماسية الجزائرية؟
وبغض النظر عن أي مقررات ستصدر غدا من قمة الجزائر العربية، بالنظر الى الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة، وحالة التشرذم والتشضي التي تعرفها، فإن الجزائر بدبلوماسيتها المتحررة اليوم من قيود العهد البائس، والمرتكزة على ثوابتها الوطنية والقومية التي لن تتغير، وعلى رأسها مقاومة الاستعمار والمقاومة ورفض الرضوخ للقوى الكبرى، ستجعل بل هي قد جعلت بالفعل، من قمة الجزائر العربية فعلا تأسيسيا وحدويا عروبيا مقاوما، في مواجهة المشاريع البديلة التي تطرحها جهات أخرى باعت القضية من أجل تحويل الجامعة العربية إلى “إطار شرق أوسطي” يقوده الكيان الصهيوني برعاية أمريكية أطلسية.
لقد نجحت قمة الجزائر العربية قبل أن تبدأ، وفشل المتآمرون والمتواطئون والخونة والمطبعون في تحويل الجامعة العربية إلى ماخور إسرائيلي، أو الدفع بالقمة العربية لكي تحمل الرائحة العبرية، وهذا وحده إنجاز هائل سيكون على جميع العرب تذكره اليوم، بأن الجزائر باحتضانها هذه القمة، منعت سقوط الأمة الكامل في أحضان عدوها، ولو إلى حين.
@ المصدر: الإخبارية
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.