هل هي معادلة جديدة ومحاولة مصرية جادة لمساعدة قطاع غزة والوقوف إلى جانب سكانه، وبداية تحول حقيقي في سياسة مصر الثورة، ومباشرة عملية لتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والسياسية تجاه قطاع غزة، وهي المسؤولية التي تخلى عنها نظام مبارك وقام بنقيضها وبعكس ما كان يتوقعه الفلسطينيون منها، فناصر إسرائيل على الفلسطينيين، وساندها وساعدها في حصارها لقطاع غزة ومضاعفة معاناة سكانه، وزيادة ألمهم ورفع منسوب الموت في صفوفهم، وضغط عليهم وعلى فصائل المقاومة الفلسطينية للقبول بالشروط الإسرائيلية، والنزول عند رغبة النظام المصري الذي كان متواطئاً مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وهو الذي سكت عن الحرب على قطاع غزة، وقبل أن تكون رسالة التهديد الإسرائيلية من القاهرة، وصافرة البدء في العدوان على لسان تسيفني ليفني في قصر الرئاسة المصري إثر لقائها مع مبارك، فهل ما يحدث الآن هو بداية تغيير حقيقي في موقف مصر الرسمي مع الكيان الإسرائيلي، وأنه علامة فارقة نحو مستقبل دور مصر وحقيقة مواقفها الجديدة تجاه الاحتلال الإسرائيلي وسياساته العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني.
أهو مسعى حقيقي لإجبار الحكومة الإسرائيلية على رفع حصارها المطبق المفروض على قطاع غزة منذ سنوات، خاصة منعها إدخال الوقود اللازم لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية في غزة، فضلاً عن وقود السيارات وغاز الطهي ومختلف المشتقات النفطية الأخرى، وأنها رسالة مصرية جادة للحكومة الإسرائيلية والعالم بأن نفط العرب هو للعرب، وغزة وسكانها أولى بغاز مصر من إسرائيل، وأن الشعب المصري يتطلع لأن يضيئ شوارع قطاع غزة ويحرك آلات ومحركات مصانعها ومعاملها بزيته ونفطه، فالشعب المصري لم يعد يقبل أن يتبرع بثرواته القومية لإسرائيل المعتدية الظالمة المحتلة للأرض الفلسطينية والمضطهدة للشعب الفلسطيني، ولن يرضى بأن تفضل حكومته العدو الإسرائيلي وسكانه على مصالح مصر وأهلها، وعلى أولوياته القومية والدينية تجاه سكان قطاع غزة، وهم الذين يدركون أن المخابرات الإسرائيلية لم تنفك تحاول اختراق أمن مصر، وإفساد الحياة فيها، وتخريب اقتصادها، وتدمير مقومات وجودها، فهي لم تتوقف عن زرع عملائها ونشر جواسيسها في مختلف مرافق الحياة المصرية، وهي تخطط لحرمان المصريين من مياههم، والضغط عليهم في مصادر نيلهم العظيم، الذي كان وما زال هبة الحياة لمصر وشعبها.
أم أن القرار السيادي الوطني المصري هو بداية تغيير في اتفاقية كامب ديفيد للسلام، وإشارة مفادها استعداد مصر وجاهزيتها لنقضها أو إعادة تقيمها من جديد، بما ينسجم ودورها ولا يتناقض مع قيمها، وبما يعيدها إلى صدارة العرب وقيادة الركب، حيث مكانتها الطبيعية وموقعها الأصيل، ودورها التاريخي الموروث، وأن المجلس العسكري المصري أراد بموافقته على القرار التسهيل على الحكومات المصرية القادمة إمكانية إعادة قراءة مختلف الاتفاقيات الموقعة من الكيان الإسرائيلي، فإذا كان الكيان الإسرائيلي والإدارة الأمريكية يعولون على المجلس العسكري المصري بأنه حامي اتفاقيات السلام مع إسرائيل، وأنه لن يسمح بالمساس بها أو التأثير عليها أو محاولة تغيير بنودها وأصولها، فها هي موافقته على تجميد توريد الغاز المصري إلى الكيان الإسرائيلي تعني أنه منحاز إلى شعبه وخيارات أمته، وأنه لا يستطيع أن يراهن على مصالح مصر القومية بعلاقاتٍ إسرائيلية هي أساس ضعف مصر وتراجع دورها وانهيار اقتصادها وخراب مجتمعاتها.
أم أن قرار مصر هو اقتصادي فقط ولا دخل للسياسة فيه، فلا مكان فيه لدور مصر التاريخي والطليعي وطموحاتها المستقبلية في استعادة دورها ومكانتها، وأن الذين اتخذوا هذا القرار رأوا أن مصر لم تعد قادرة على حماية خطوط الغاز التي تزود إسرائيل به عبر صحراء سيناء، فالهجمات المتكررة عليه وتفجيره لعدة مرات قد ألحق بالشركة الناقلة خسائر كبيرة، فلم تعد قدرات شركات التأمين فيها قادرة على تعويض الخسائر وضمان المستقبل، وتحقيق الربح المتوقع، فقررت أن تتوقف عن بيع الغاز إلى الكيان الإسرائيلي، مخافة أن تتكرر التفجيرات، وينجح المعارضون لهذه الصفقات في إلحاق خسائر أكبر بالشركة المسؤولة عن توريد الغاز.
النتيجة واحدة هي أن مصر ستتوقف عن ضخ الغاز إلى الكيان الإسرائيلي، ولن تواصل سياسة الخنوع التي رضخ لها وقبل بها نظام مبارك، وستشعر الحكومة الإسرائيلية بأن مصر دولة ذات سيادة، ولها كرامتها وموقفها الحر والمستقل، وأنها لا تخشى رد الفعل الإسرائيلي ولا التهديدات الأمريكية لها، وأنها تركن إلى شعبٍ وأمة لا يرضون لها الهوان، ولا يقبلون لها الدنية، ولا يسكتون لها على الضيم، ولا يقبلون أن تستباح خيراتها وأن تنهب مقدراتها، وأن يستخدمها الكيان الإسرائيلي في قهر الشعب الفلسطيني، وإلحاق الضرر به قتلاً وتخريباً وتدميراً، فهذه خيرات الشعب المصري ومقدراته، وهم أحرارٌ في قرارهم ومع من يتعاونون في بيع نفطهم، وصدق من قال “من تحكم في ماله فما ظلم”، وهذا مالٌ مصري عربي وإسلامي خالص، هو لمصر وشعبها وأمتها العربية والإسلامية دون سواهم.
تدرك الحكومة الإسرائيلية خطورة وأبعاد القرار المصري، فهو قرارٌ جاد، وموقفٌ صارم، تفهمه وتحسن قراءته، وقد حملت مبكراً نذره المخابرات الإسرائيلية والعاملون الإسرائيليون في السفارة الإسرائيلية في القاهرة، فهو قرارٌ سيادي سياسي مصري لا اقتصادي، يحمل معه أولى ثمار الثورة، فالسلام مع مصر لن يعود بارداً كما كان، ولن يجمد على حاله ويبقى، بل إن نذر سقوطه قائمة، وملامح انهياره حاضرة، وإمكانية التخلي عنه ورادة في أي لحظة، وسيبدأ الإسرائيليون في الإحساس يقيناً بأن مصر أصبحت إلى غزة أقرب، ومع الشعب الفلسطيني أصدق، وهي إلى تاريخها القديم ودورها الرائد تتطلع، وهي أبداً لن تقبل أن ترى شوارع تل أبيب مضاءة بينما بيوت غزة معتمة، ومصانعها معطلة، ومعاملها متوقفة، وهي بالتأكيد لن تقبل أن يكون وقودها هو الذي يحرك آلة الدمار الإسرائيلية، وهو الذي يملأ خزانات وقود المقاتلات الحربية الإسرائيلية، فهل تنجح مصر في فرض معادلة جديدة، تتجاوز في أبعادها كهرباء غزة مقابل غاز تل أبيب، إلى وقف العدوان والقبول بالحق والإذعان إلى العدل.
moustafa.leddawi@gmail.com
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.