يقتضي منطق الترف أن يصل الأفراد الذين يبحثون عنه إلى درجة من التشبّع فيما يتعلق بحاجياتهم الأساسية والضرورية، أما أن يتطلع الناس إلى حياة الترف واللهو وهم لا يزالون غارقون في مستنقع الحاجيات الضرورية، ووحل الحياة اليومية المضنية فهذا يعني أن عقولهم قد تم التلاعب بها وتوجيهها من حيث لا يدرون، لصالح الفئات المتحكمة في زمام الأمور.
لقد تحولت هذه اللعبة الاستعراضية إلى تجارة تدرِ على أصحابها أرباحا طائلة ومغرية، بل وصناعة يتم من خلالها تنميط اللاعبين ونمذجتهم وفق ما تقتضيه تكنوقراطية الرياضة الاحترافية، فصناعة الفٌرجة والمتعة باتت سلعة استهلاكية تستقطب جماهير عريضة ويقف خلفها مهندسون في الصناعة التسويقية بارعون في تقصي رغبات الجماهير الشعبية وخلق مزيد من الحاجة إلى المتعة والترف.
ستنقلب اللعبة المقدسة إلى لعبة مدنّسة تستباح فيها الأرواح والأعراض، ويتحول فيها الجمهور المناصر إلى جيش مدمِر يٌتلف الأخضر واليابس، يخرب البلاد ويٌرهب العباد.. كل هذا يحدث بمباركة ورعاية مؤسسية يحرسها النظام وتختلق لها وسائل الإعلام كل التبريرات والأعذار..!
وبحكم أننا ننتمي إلى المجتمعات التقليدية المتخلفة التي تفتقر إلى العقلانية والوسطية في السلوكات والمعاملات والأفكار والتصرفات، فإما إفراط ومغالاة أو تفريط ولا مبالاة، فقد أصبحت لعبة كرة القدم لدينا تسمو إلى حدّ التقديس وتنحدر إلى درجة التدنيس لدى كل من الممارسين والقائمين وكذا الجماهير المناصرة..
فقد تحول الملعب إلى معبد تمارس فيه طقوس وعبادات وتؤدى فيه تراتيل وصلوات، كما تحترم فيه مواقيت العبادات.. أما اللاعبون فهم الأصنام المعبودة، ويقوم المدربون مقام سدنة الأصنام، ورؤساء الفرق هم بمثابة الكهنة الذين يعظمون من شأن المعبود بقدر ما يدر عليهم من أرباح.
يقدس الجمهور المناصر في مجتمعنا اللعبة واللاعبين لدرجة الهوس، فتصبح كرة القدم ديانتهم وديدنهم، فتتحول من وسيلة للترف والبحث على الفرجة والمتعة إلى وثن يٌعبد ويٌتقرب إليه بالأضاحي والقرابين، التي عادة ما تكون من البشر، وتقام الطقوس الاحتفالية في المعبد (الملعب) فتٌدق النواقيس والطبول وتٌرفع الرايات وتٌتلى التراتيل الجالبة للحظ طمعا في الفوز والتغلب على الخصم.. فإذا تحقق مبتغى اللاعبين والمناصرين زاد إخلاص العٌباّد في عبادتهم وازداد تمسكهم بديانتهم، واثنوا على المدير الفني والرئيس وبجّلوا الحكم وازداد اعتقادهم ببركات الملعب وكرامات اللاعبين الأولياء.
لكن إذا حدث وخاب ظنهم في الفوز فخسروا المباراة وانهزموا أمام الخصم، فسيتحول الملائكة إلى شياطين، وسيصير المعبد (الملعب) ساحة معركة وميدان للقتال، وسيتحول إلى مكان مباح للكل لا حرمة له بعد ما كان مقدسا.. وسيصبح حكم المباراة، الذي كان قاضيا عادلا ونزيها ومتحكما في زمام الأمور، أثناء الفوز، غشاشا ومرتشيا وفاسدا وشيطانا أخرس.. أما من سيزيد في إضرام نار الفتنة بين الخصوم فهو الإعلام من خلال معلقيه ومحلليه الذين يتلونون بألوان المصالح والتحيزات والولاءات الجهوية والعرقية.
ستنقلب اللعبة المقدسة إلى لعبة مدنّسة تستباح فيها الأرواح والأعراض، ويتحول فيها الجمهور المناصر إلى جيش مدمِر يٌتلف الأخضر واليابس، يخرب البلاد ويٌرهب العباد.. كل هذا يحدث بمباركة ورعاية مؤسسية يحرسها النظام وتختلق لها وسائل الإعلام كل التبريرات والأعذار، ويٌثار جدل محتدم بين أرمدة من المحللين وفلاسفة الكرة وفقهاء الرياضة، كل يسعى إلى الدفاع عن مصالحه ومكاسبه، محاولين إقناع العقلاء بأنهم مجانين والمبصرين على أنهم عميُ لا يستطيعون رؤية الحقائق، وبأن كرة القدم هذه أكثر من لعبة، بل هي الحياة كلها وبدونها لن نستطيع أن نكون دولة ولا حتى بشر عاديين.
كل هذا بهدف إطالة غيبوبة الشعب الذي يٌنسيه الهوس بالمباريات همومه اليومية، من بطالة ومشاكل السكن والصحة وتدهور المستوى المعيشي، هذه المطالب التي كان من المفروض أن تكفلها الدولة قبل أن تتكفل بمشاكل كرة القدم..
لا يخفى على أحد أن كرة القدم في المجتمعات المتخلفة هي آلية من آليات التلاعب بالعقول، تُصرف عليها الأموال الطائلة ويتقاضى اللاعبون والمدربون فيها رواتب خيالية، ويٌفرض على المؤسسات العمومية تبني ودعم الأندية “المحترفة”، في الوقت الذي تعاني فيه أغلب هذه المؤسسات من عجز مالي ومشاكل اقتصادية جمة، كل هذا بهدف إطالة غيبوبة الشعب الذي يٌنسيه الهوس بالمباريات همومه اليومية، من بطالة ومشاكل السكن والصحة وتدهور المستوى المعيشي، هذه المطالب التي كان من المفروض أن تكفلها الدولة قبل أن تتكفل بمشاكل كرة القدم.
كل المنافسات والصراعات والسباقات والحروب والجدال والنقاشات التي تٌدخل الناس في دوامة من الفروقات الطائفية، الحزبية، الإثنيه، الجهوية والإقليمية، تدعي كل منها الأحقية والأسبقية، هي بمثابة عقبات تعطل الحركة الدينامية للحياة وتقتل الروح الخلاقة للإبداع والابتكار المنعشة للحضارة والتطور والنمو والازدهار.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.