في 25 ديسمبر 1977 التقى الرئيس المصري أنور السادات رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في مدينة الاسماعيلية. وهو اللقاء الذي تم فيه طرح مشروع التسوية، الذي شكل الأساس لاتفاقيات كامب ديفيد.
وقد تخلل مباحثات الاسماعيلية ثلاث جلسات انتهت بمؤتمر صحفي أعلن فيه الطرفان آراءهما فيما دار من نقاش، دون أن يصدر بيان مشترك عن المباحثات. واعتبر ذلك مؤشرا إلى وجود خلافات كبيرة في الرأي.
وفعلا برز الخلاف حين أصر الإسرائيليون على بقاء قاعدتيهما الجويتين في سيناء، في وقت ألحوا على المصريين بعدم الاحتفاظ بقوات ذات شأن في شبه الجزيرة. وحين استغرب المصريون هذا الموقف غير المتكافئ، رد عليهم الطرف الإسرائيلي: يجب أن تكون هناك ثقة.!؟
الثقة هي أن تسمح لي بإبقاء قوات على أرضك وألا تكون لك قوات على نفس الأرض!
الثقة هي أن تسمح لي بالتفوق العسكري عليك وفي عقر دارك !
الثقة هي أن تقبل بشروطي دون أن تكون لك شروط !
الثقة هي أن تقبل بالأمر الواقع الذي يخول لي ضربك في أي وقت في العمق ومن العمق دون أن يكون بمقدورك الرد بالمثل!
مسألة الثقة هذه التي لم يقبلها السادات ولو مؤقتا حين أوقف عمل اللجنتين السياسية والعسكرية اللتين تم إنشاؤهما في الإسماعيلية رغم المساعي الأمريكية المكثفة لتنشيطهما،يقبلها اليوم بعض الحكام عن طواعية. بل منهم من تطوع لعرضها على إسرائيل. رغم ذلك لم نقم بتخوين هؤلاء كما تم تخوين السادات !؟.
لقد صار لدى بعض العرب الثقة في إسرائيل حين منحوها بعد التطبيع موطئ قدم في جزيرة سقطرة اليمنية، وموطئ قدم أخرى في ميناء عصب الإيريتري الذي تسيره شركة موانئ دبي العالمية، بما يتيح لإسرائيل اليوم مراقبة التحركات في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن. وليس للعرب من مصلحة في ذلك، بل هي مصلحة خالصة لإسرائيل.!؟
لقد صار لدى بعض العرب الثقة في إسرائيل لدرجة إعطائها الموافقة على نشر منظومتها الرادارية “الصنوبر الأخضر” ومنظومة صواريخ السهم (Arrow) التي يصل مداها 900 كلم. ذلك أن وضع هذه المنظومة في الإمارات سيؤدي إلى كشف جزء كبير من المجال الجوي الإيراني.
في حين يزيد وضعها في البحرين مجال التغطية ليقترب من تحقيق الهدف القائل أن الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي يبدأ شرقا من باكستان. وفي هذا خدمة للأمن القومي الإسرائيلي لا العربي.!؟
لقد صار لدى بعض العرب الثقة في إسرائيل لدرجة تفضيلهم لسلاحها على بقية أسلحة العالم. ذلك أن المغرب والإمارات والبحرين طلبت من إسرائيل شراء منظومة القبة الحديدية ورادار “الصنوبر الأخضر” ومنظومة الصواريخ “حيتس” المضادة للصواريخ.
ومعنى ذلك أن هؤلاء العرب تخلوا عن فكرة محاربة إسرائيل ولو بالنيابة ليخوضوا حروبا أخرى بديلة على الأغلب ضد أشقاء. لأنه من غير المعقول شراء منظومة أسلحة لتحارب بها من يبيعك إياها.!؟
لقد صار لدى بعض العرب الثقة في إسرائيل حتى لتوقيع اتفاقية لـ”الدفاع المشترك” وهو الأمر غير المسبوق بين إسرائيل ودولة عربية.
وهذا ما سعت إليه الجارة الغربية مملكة أمير المؤمنين. وهو ما وصفته مصادر إسرائيلية بالحدث المذهل من الناحية الاستراتيجية. ودون أن نتساءل: دفاع مشترك ضد من.!؟
كل هذا حدث في السنوات الثلاثة الأولى للتطبيع، ما يجعلنا نجزم بالقول بأن القادم أسوأ. وأنه لم يعد علينا الاحتجاج على إسرائيل حين تخاطبنا بالقول: يجب أن تكون هناك ثقة. الأجدر بنا أن نحتج على الأشقاء، وألا نثق في نوايا العرب الموالين لإسرائيل.
لكننا نحن من لا ثقة لهم في إسرائيل ندرك أن ساسة شعب يهودا لا يزالون يصرون على ضرورة تغيير المواقف العربية تجاه دويلتهم حتى يفكروا في السلام. لهذا:
لا ثقة لنا في نوايا إسرائيل التي لا ترى لحدود الدولة العبرية حدا. فبعد أن قضت النكسة بأن تكون حدود إسرائيل الآمنة تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء؛ لم يمض زمن طويل حتى رأت إسرائيل بأن نهر الليطاني أمثل لحدودها الآمنة. ثم ما لبثت أن أدركت أن المدى يجب أن يبلغ بغداد، وحبذا لو وصلت الحدود إلى الفرات.
لا ثقة لنا في نوايا إسرائيل لأن وجهة نظر وزارة الدفاع الإسرائيلية تقضي بأن حدود الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي تمتد من باكستان إلى المغرب الأقصى.
وفي هذا الفضاء الذي يعادل فضاء الإمبراطورية العثمانية من حيث المساحة، تعمل إسرائيل على نشر منظوماتها وأسلحتها وأنشطتها الاستخبارية بحيث يمكنها الوصول إن دعت الضرورة إلى أبعد نقطة في هذه الجغرافيا.
لكنها في المقابل لا تسمح ضمن هذا الفضاء بتطور أي قدرات عسكرية كفيلة حتى بتقديم مساعدة محتملة لقوى المواجهة، حتى لا أقول دول المواجهة لأنها لم تعد موجودة.
لا ثقة لنا في نوايا إسرائيل ومن ورائها حلفائها الذين يبادرون في كل مرة بمعاقبتنا أكثر مما عوقبت ألمانيا النازية التي تسببت في الحربين الكونيتين. وما الثمانين ألف طن من المتفجرات التي أمطر بها العلوج بغداد لإسقاط النظام العراقي أحد نماذج الصقور العربية المواجهة لإسرائيل إلا شاهد على سبيل المثال لا الحصر.
لا ثقة لنا في نوايا إسرائيل حين تتحدث عن السلام وهي تنوي الحرب، وكأنها هي من تعمل بالمقولة العربية القديمة: “إذا أردت السلم فاستعد للحرب”. مقولة نحن أولى بالعمل بها، وأحرى بتطبيقها من إسرائيل.
ورغم هذا لا زالت بعض الأنظمة العربية تصدق أكذوبة الثقة، وتلومنا نحن الذين لا يثقون، وأحيانا تناصبنا العداء. وللأسف نعيش اليوم العصر الذهبي لمن يثقون في إسرائيل؛ وفي مقابله نشهد انتكاسة الصقور العربية التي كانت لا تهادن ولا تساوم على ثوابت الأمة. بل إنالانتكاسة طالت حتى أولئك الذينكنا نسخر منهم لأنهم كانوا يواجهون إسرائيل بالخطب والأشعار وبيانات الاستنكار.
لأن الخطب والأشعار صارت من أزمنة الجهاد في تاريخنا. ومن الشجاعة اليوم إلقاء خطبة عصماء تندد بإسرائيل أو نظم قصيدة تدافع عن القضية. فحالنا حال المثل العربي الشائع: من قلة الخيل شدوا على الكلاب سروجا.!؟
@ طالع أيضا: هلع في المغرب من ضربة عسكرية جزائرية تقترب؟!
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.