إن كانت أعجوبة "حدائق بابل المعلقة" في العراق قد اختفت، فإن أعجوبة "البيوت المعلقة" حقيقة موجودة من زمن في الجزائر، وتحديدا في روائع "شرفات الغوفي" المتربعة على تلة بارتفاع 500 م معتلية سطح البحر بـ 1200 م ببلدية "غسيرة"، دائرة "تكوت" 93 كم جنوب ولاية باتنة الواقعة على بعد 600 كلم جنوب شرق العاصمة وغير بعيد عن ولاية بسكرة بحوالي 45 كم.
تحفة بين الأرض والسماء
تعد مدينة “الغوفي” رقعة جغرافية مميزة تتمركز بين التل والصحراء، يتخللها مجرى مائي متعرج يسميه المحليون “إغزر أملال” بمعنى “الوادي الأبيض” الذي يسري في سفح تدرجات صخرية متسلسلة تمتد نحو الأعلى بـ 60 متر لتكوّن نسيجا عمرانيا نادرا تتغنى جدرانه وأسقفه الصخرية بتاريخ حضارة عريقة عمرت هنا.
الشكل الأولي الذي يتراءى للعين من بعيد هو مجسم ضخم لقلعة أثرية من العصور القديمة، وبالاقتراب أكثر تتضح معالم سلسلة منازل طينية حجرية متلاصقة بشرفات مطلة على رمال ذهبية تحتضن واحات أشجار النخيل المعمّرة وأشجار الفاكهة المثمرة بالتين والزيتون والرمان وتفترش الحشائش الخضراء وعدة أنواع من النبات البرية العلاجية المرتوية بالمياه العذبة.
منظر مدهش يثير الانبهار ويبعث الفضول في النفوس لاستكشاف خبايا هذه التحفة الطبيعية التي صقلتها يد الإنسان والبحث أكثر للتعرف على تاريخها الأصلي.
أصل تسمية “الغوفي”
تباينت الآراء حول أصل تسمية “الغوفي” ولا يوجد أي مصدر تاريخي موثوق يجزم بمعناها الحقيقي أو نسبها الأصلي، وما يتم تداوله يبقى مجرد اجتهادات وروايات متداولة.
كانت تسمى سابقا “فلوس” بلهجة السكان المحليين ومعناه لب ثمرة الجوز المحاطة بقشرة صلبة تنقسم إلى جزأين عند فصلها، ولأن المنطقة واقعة بين سلسلتين صخريتين توحي بأنهما تحتضناها مغلفة بين جنبتيها جاء التشبيه البليغ بينهما.
أما عن تسمية “غوفي” فيشاع أنها جاءت نسبة لقائد عسكري فرنسي يدعى “روفي” قام ببناء فندق في هذا الفضاء السياحي ما بين عامي 1901 و1902م، وهذه مجرد مغالطة تاريخية لأن المكان تم تعميره من قبل الأمازيغ وهم السكان الأصليين للأرض، ويعرفون بالشاوية سكان الأوراس منذ أكثر من 400 سنة أي قبل وجود الاحتلال العسكري وسيطرته على المنطقة وتهجيره للأهالي إلى تبسة، ومن ثمة بناء إقامات للسياح من الضباط والفنانين الغربيين، ولكن هذا النشاط توقف بعد مهاجمة هذا المرفق من قبل المجاهدين أثناء ثورة التحرير المباركة عام 1955م.
أما أقرب التفاسير المنطقية لأصل تسمية “الغوفي” هو نسبة إلى “الكوفي” وهي كلمة أمازيغية محضة تعني مطمورة الطعام (مخزون للحبوب والفواكه الجافة وغيرها من المنتجات الغذائية)، وهو مخزن تحت الأرض، وقد يكون مجسما دائريا أو مربعا هيكله مبني من الطين ويُخَبَؤُ فيه الطعام لوقت الحاجة، فيظل محفوظا لمدة طويلة لا يتعرض للتلف أو التعفن وهذا هو تماما حال بيوت “الغوفي” المكنونة.
تصنيف “شرفات الغوفي” كموقع أثري
تم ضم “شرفات الغوفي” إلى قائمة المواقع التاريخية الطبيعية المحمية عالميا من قبل “اليونيسكو”، وقد كانت هذه المنازل الأثرية في الماضي مساكنا للبشر ومواقع لتخزين الطعام وكذا حصونا للاحتماء من الأعداء وقت الحروب لأنها منيعة ومرتفعة عن الأرض مما يعطي فرصة أكبر للاختباء وتفوقا في رد هجمات الأعداء.
ونظرا لأهمية طريقة البناء المستدامة وكذا طبيعة المواد التي شُكِّلَت منها السقوف والجدران حظيت بخاصية عدم تأثرها بالعوامل الجوية وتوفرها على شروط مناخية خاصة ملائمة للعيش، فهي تحتفظ في الداخل بالبرودة صيفا، و تمنع دخول البرد والرياح إليها شتاء مخزنة الدفء المنبعث من إشعال الحطب في الداخل.
منذ سبعينيات القرن الماضي لم تعد هذه المنازل مأهولة، وتحولت لقبلة مفضلة للسياح من داخل وخارج الوطن، حيث تم فتح محلات لبيع التذكارات المعبرة عن ثقافة سكان “الأوراس” الأصيلة من أوان فخارية وزرابي تقليدية وغيرها من المنتوجات الحرفية.
كما جُهِّزَت بعض المطاعم المختصة في صنع الأطباق المحلية التقليدية الشهيرة مثل أشخشوخ، إيوزان إيمرمز وأبربوش أيباون، وكذا لحم الضأن المشوي على الجمر الذي يحبه الزوار ويشيدون بطريقة إعداده المتقنة فضلا عن طعمه اللذيذ الذي يزيده جمال المكان حلاوة وتميزا.
شرفات “الغوفي” جوهرة تنتظر التقدير
من غير مبالغة أو تعصب فإن جمال “مدينة الغوفي” لا نظير له، وقطعا لا وجود لمكان آخر في العالم مثلها، فتجاور المنازل المنحوتة داخل الصخر وتقابل الشرفات المفتوحة بشكلها الهندسي الإبداعي يجعلها تحفة معمارية متجانسة.
أما تشبيهها بمدينة “كولورادو” الأمريكية فهو مخالف للواقع ولا يعكس حقيقة هذا الموروث التاريخي الحضاري، فخصوصية “شرفات الغوفي” تميزها وتجعلها جوهرة أصلية فريدة يستحيل تقليدها، تتلألأ كل يوم وتحيي ما تبقى من آثار تطل عليها بأنس وإيلاف مثل قبة المسجد الصغير الذي يقبع في الأسفل منتظرا من يرممه لتدب الحياة في أقواسه المنهارة من جديد، وهذا هو حال المدينة بأكملها بعدما لاقته من تهميش وإهمال، فحري بالسلطات أن تتحرك لإنقاذ هذا الإرث التاريخي الحضاري من الضياع.
نهيب بالجهات الوصية أن تسارع بخطوات جادة للصعود إلى “شرفات الغوفي” التي يتضامن معها الأهالي ويساندونها لترقى لمصاف الوجهات السياحية العالمية رغم الإمكانيات البسيطة، فالنشاط الأساسي في المنطقة ذو طابع رعوي فلاحي يحتاج للنهوض بالكاد يوفر لقمة العيش فكيف سيصل إلى تغطية الاحتياجات السياحية، لكن هذا لم يمنع من توافد الزوار الذين يقرون أن طيبة وكرم مضيفيهم زاد “شرفات الغوفي” المرتفعة رفعة وسموا.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.