حينما أريد أن أشرح لطلبتي بالجامعة بشكل مبسط الفرق بين الاستراتيجية والاستراتيجية العليا أعطيهم المثال العراقي، فأقول على سبيل المثال بأن استراتيجية الرئيس الأمريكي بوش في غزوه للعراق كانت تقضي بإسقاط نظام صدام حسين وكسر شوكة الجيش العراقي الذي كان يشغل بال ساسة تل أبيب قبل غيرهم.
أما الاستراتيجية الأمريكية العليا في العراق فهي تجيبنا على السؤال: ما العمل بالعراق على المديين المتوسط والبعيد بعد إسقاط حكم الرئيس صدام حسين؟.
مثال من هذا القبيل يصلح اليوم لأن يكون مدخلا لطرح السؤال من جديد بصيغة:
ما العمل بعالم ما بعد أوكرانيا؟ ليس فقط بالنسبة لروسيا والولايات المتحدة وحلفاؤهما، ولكن بالنسبة لمستقبل هذا العالم، وهل نحن مقبلون على تغيرات حتمية لا مفر منها؟
أو بالأحرى هل تقضي الاستراتيجيات العليا التي تطبخ بألا يكون عالم ما بعد أوكرانيا مثيلا لما قبلها؟.
نعد إلى بداية البدايات حتى تتوضح لنا صورة قلّ ما نستكشفها. فمنذ بدء الخليقة ظهر السعي المحموم لحكم العالم أو أجزاء منه عن طريق الغزو سواء باسم الدين أو باسم القوة الغاشمة أو باسم هيمنة السوق أو ما يعرف بالتجارة والمال.
حتى أن بعض الغزاة سيطروا على أجزاء واسعة من العالم القديم وأسسوا امبراطوريات دون أن تكون لهم عاصمة، لأنهم كانوا منشغلين بالغزو تلو الغزو فلم يكن لديهم وقت للاستقرار. حتى إذا رحلوا رحلت معهم الامبراطورية لتقوم مقامها امبراطورية جديدة على يد غازي جديد.
من هذا المنظور يقول أكثر من قائل بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتعلم من التاريخ البشري الحقيقة القائلة أن الامبراطوريات لا تحيا إلا بالحروب أما الأسواق فتحتاج إلى السلم.
لكن أمريكا العظيمة اليوم تحاول قلب المعادلة؛ إذ هي في عصر السوق تحاول أن تحكم العالم بمنطق الإمبراطورية. وهي عوض أن تكرس منطق السلم الضامن لديمومتها تفرض منطق الحرب الذي سيعجل بفنائها كما كان الحال بالنسبة لكل الامبراطوريات أيا كان مكانها وزمانها.
قد يشكك في هذا الكثير من الذين يؤمنون بأن أمريكا هي من ستسود العالم لحقب عديدة قادمة، وفي الحالة العكسية ستسوده الصين. ولنبدأ من حيث يجب أن ننتهي بالقول: أن الولايات المتحدة لن يمكنها حكم العالم على المدى البعيد.
أما الصين فعلينا التساؤل: هل لديها الرغبة لحكم عالم تسوده الفوضى؟
قد أدخلت الحرب الروسية الأوكرانية العالم في فوضى متعددة الجوانب:
فوضى اقتصادية بفضل تفعيل سياسة العقوبات المتعددة الجنسيات بشكل غير مسبوق وأرعن وعلى نطاق شبه عالمي، كان المتضرر فيها هذه المرة ليس الطرف المستهدف، بل أطراف أخرى لا علاقة لها بالنزاع.
فالعقوبات تم تسليطها على روسيا، بينما كان المتضرر الأكبر منها شعوب وحكومات في افريقيا وأسيا وأمريكا وحتى بعض من فرضوها من دول أوروبا الغربية.
فوضى نقدية بفعل محاولة الانقلاب الروسي على هيمنة الدولار في التعاملات المالية الدولية.
وهي محاولة جاءت كرد فعل على العقوبات وللالتفاف عليها. والنتيجة انفتاح بعض الاقتصادات على التعامل بالعملات المحلية. وهي تجربة إن كتب لها النجاح ستعيد تشكيل النظام المالي العالمي.
فوضى عسكرية بفعل التدفق الهائل للسلاح نحو بؤرة التوتر وتفعيل نظام الحرب بالوكالة على نطاق دولي واسع.
فالحرب في ظاهرها روسية أوكرانية، لكن يتم فيها تجريب كل منظومات السلاح لمختلف الجيوش. وعلى ضوء أداء كل سلاح يتم تطويره ليكون أكثر فتكا وتدميرا استعدادا لحرب قادمة لا محالة، قد تكون كونية.
لقد سئل آينشتاين عن الحرب العالمية الثالثة فقال: أنا لا أعرف ما هي الأسلحة التي سوف تكون في الحرب العالمية الثالثة، ولكن الحرب العالمية الرابعة ستكون بالعصي والحجارة!. بمعنى أن الحرب الكونية الثالثة إن وقعت ستعيد الانسان إلى البدائية إذا لم يكن الفناء.
فوضى بيئية بفعل التهديد الوشيك الذي طال المنشآت النووية كمنشأة زابوروجيا الأوكرانية. الأمر الذي صار يهدد العالم خصوصا القارة العجوز بما هو أخطر من انفجار مفاعل تشرنوبيل.
فوضى أخلاقية وقانونية بفعل التجريم الانتقائي للبعض والتغاضي المتعمد عن جرائم البعض الآخر.
فأمريكا لم يجرؤ العالم على تجريم أعمالها في العراق وأفغانستان، والحال كذلك بالنسبة لجرائم ربيبتها إسرائيل في حق الفلسطينيين، لكن ذات العالم يجرؤ بل ويتحمس لتجريم بوتين وتجريم حماس وحركة الجهاد وحزب الله وحتى بعض الساسة الأفارقة.
فوضى سياسية عارمة بعد أن انهارت الثوابت في السياسة الدولية. فحين تنساق أوروبا رغم عدم اقتناعها وراء رغبات وحيد القرن الأمريكي فهذا يعني أن السياسة الدولية صارت تحكمها مشيئة الأقوى لا الثوابت.
ونسوق لذلك مثالين:
الأول: توجيه الدعوة من قبل القمة العربية الأخيرة للرئيس الأوكراني زيلنسكي في سابقة هي الأولى في تاريخ القمم العربية، رغم أن بلده في حالة حرب تتخذ منها المجموعة العربية موقف الحياد، يراه البعض تطويعا للسياسة الإقليمية إرضاء للقوة العالمية المهيمنة (الولايات المتحدة) وخوفا من عقوباتها وليس اقتناعا بسياساتها.
والنتيجة أن زيلنسكي خطب في القمة العربية طالبا الدعم، وهو الذي لم يذكر في خطابه ولا مرة واحدة قضية العرب الأولى فلسطين، وهذا نوع من العجرفة السياسية واستقواء بعضلات القوة المهيمنة.
الثاني: في لقاء هيروشيما الأخير للدول الصناعية السبعة عبر البيان الختامي عن الانشغال من التوسع العسكري الصيني جنوب بحر الصين. في حين أن هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة هي من تطوق الصين بحزام من القواعد العسكرية المعادية في المحيط الهادي، وتشجع تايوان على تحدي بكين والدفع بانفصال الجزيرة عن الوطن الأم إلى مداه.
ما يوحي بأن العلاقات الدولية لم يعد يحكمها القانون الدولي قدر ما يحكمها منطق الأقوى. وهو ما يفسح المجال كلما سنحت الفرصة للتمرد على هذا الأقوى أو الاستقواء عليه. وهو ما تحاول روسيا فعله اليوم وستفعله الصين لاحقا.
لقد فوت العالم على نفسه الانخراط في نظام حوكمة عالمية مرتين. الأولى من خلال عصبة الأمم المتحدة التي أجهضتها النازية، والثانية من خلال منظمة الأمم المتحدة التي أضعفتها الحرب الباردة وتخنقها اليوم الهيمنة الأمريكية، التي تسخر المنظمة الأممية وملحقاتها لخدمة سياساتها ومصالحها
فلا مجلس الأمن ينصف المظلومين، ولا محكمة العدل الدولية تحاكم المجرمين. فكلا الهيئتين تجرمان من تريد الولايات المتحدة تجريمه، وتغضان الطرف عن أفعال من ترضى عنه. حتى صندوق النقد الدولي سخر لخدمة مصالح القوة المهيمنة وأصبح أحد أدوات العقاب.
إن منطق القوة المهيمنة لن يكتب له الدوام في عالم ما بعد حرب أوكرانيا. فالعالم صار بمقدوره الانتحار على يد من يملكون قدرة الضغط على زر السلاح النووي، وما أكثرهم. بل إن بعضهم مثل كوريا الشمالية وربما إيران غدا، ولما لا روسيا لو تم حشرها في زاوية لا مهرب منها.
فوق هذا صار متاحا للبشرية الانتحار وتدمير الكوكب بغير سلاح وبغير عنف. وما حرب الفيروسات إلا في بداياتها، وما فيروس كورونا الذي أدخل العالم في عزلة تامة لحولين كاملين إلا مؤشر على جدية هذا السلاح، الذي لا تحتكره القوة المهيمنة.
حتى وإن كانت لا زالت تبدو قوية ومهيمنة فإن الولايات المتحدة بدأت تضعف بالتدريج. ومناطق النفوذ الجيوـ سياسي التي خضعت لها منذ قيام النظام العالمي الجديد بعد انهيار جدار برلين ومعه الاتحاد السوفياتي أخذت في ظرف وجيز لا يتعدى 30 سنة تشهد تغيرات حتمية.
فأوروبا صارت تدرك أن أمنها مهدد في غياب الاتحاد السوفياتي أكثر مما في وجوده، والقوة المهيمنة لن تستطيع في حقيقة الأمر فعل شيء حيال ذلك. وعواصم مثل لندن وباريس وبرلين ستمحى من الخريطة لو شاء الدب الروسي قبل أن تتحرك القوة المهيمنة على الضفة الأخرى من الأطلسي.
أما جنوب شرق آسيا فهو مقبل على تغييرات عميقة في قادم السنوات، بعد أن تصبح الصين القوة البحرية الأولى وربما القوة الجوية الأولى في العالم، وقد يتحقق ذلك في أفق عام 2030.
أما الشرق الأوسط فأخذ فيه حلفاء الولايات المتحدة التقليديون وعلى رأسهم السعودية يتمردون على مشيئة القوة المهيمنة ولو بأدب.
وإفريقيا تعلمت كيف تقول لا وبصوت مسموع للقوى الاستعمارية السابقة وعلى رأسها فرنسا، وستقولها لأمريكا إن آجلا أم عاجلا.
العالم الذي تتسلى اليوم القوة المهيمنة وحلفاؤها بالتلاعب بنواميسه سيأتي مستقبلا من يضرب بقوانينه عرض الحائط.
والقوى الصاعدة الجديدة ليست بالضرورة دول تحتكم إلى القانون الدولي، ولها جيوش تحترم قواعد الاشتباك، بل هي جماعات وقوى مثل حزب الله والجهاد الاسلامي وقوات فاغنر ومقاتلي أزوف وأمثالهم كثيرون عبر العالم. كل واحد منها سن لنفسه قوانينه ورسم أهدافه.
وسيحاجج مستقبلا القوة المهيمنة ومن معها بأنهم إن كانوا هم لا يحترمون القانون الدولي الذي وضعوه فكيف لهم أن يطلبوا من تلك الجماعات احترامه؟
وهي جماعات وإن كان غير معترف بها، فإنه يعمل لها ألف حساب، ويتم التفاوض معها من وراء ستار. واليوم لا يمكن تجاوز حزب الله في معادلة الشرق الأوسط، بل يعمل له ألف حساب أكثر مما يعمل لدول المواجهة مجتمعة.
ويتم التوجس من حركة الجهاد، أكثر بكثير من التوجس من ردات الفعل المحتشمة للسلطة الفلسطينية. والروس ذاقوا الأمرين على يد نازيي كتيبة أزوف أكثر مما عانوا من الجيش الأوكراني. والعكس صحيح فما فعلته قوات فاغنر في باخموت فاق بكثير ما فعلته القوات الروسية.
مثل هذه الجماعات هي من سيحدد قواعد الاشتباك مستقبلا بعد أن تيسر لها الحصول على الأسلحة الفتاكة غير التقليدية. فتفريخ فيروسات قاتلة تجتاح العالم لا يحتاج إلا لمختبر بحجم غرفة. وصناعة الصواريخ بالآلاف صار يتم اليوم في أقبية لا مصانع. والمسيرات زهيدة الثمن وسيسهل تصنيعها بالألاف، وسيتم إطلاقها على دفعات كالجراد المنتشر لا تنفع في صدها كلها أي دفاعات جوية.
هذا السيناريو ولو أنه يبدو للبعض اعتباطيا ما كان ليكون متوقعا لو أن القوة المهيمنة بعد 1989 تاريخ صعودها منصة الريادة العالمية تخلت عن تسيير العالم بمنطق الامبراطورية، واستعاضت عنه بمنطق السوق..!؟
@ طالع أيضا: كلب بومدين الذي ظل ويظل واقفا…!!؟
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.