تناقلت وسائل الإعلام كما شبكات التواصل الاجتماعي، هذه الأيام، المقترح الصادر عن مدير مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية بوهران، والذي مفاده أن سورة لإخلاص تشكل عقبة مفهومية أمام أطفال الصفوف الابتدائية، وبالتالي يجب حذفها من المقرر الدراسي.
من الممكن أن يكون هذا المقترح هو نتيجة لأبحاث علمية لمتخصصين في مجال التربية وعلم النفس التربوي، أو تخصصات أخرى قريبة من هذه المجالات، فهم يستندون في تبريراتهم على فرضية مفادها أن مجال العقيدة والتوحيد لا يمكن أن يستوعبه عقل الطفل الذي لا زال في طور التكوين. وكأن الجهاز العصبي للطفل سوف يتعطل حين يسمع الآية ” لم يلد ولم يولد “، وبماذا سنجيبه حين يسألنا عن من ولد الله؟، وكيف يمكننا أن نقنعه بأن الله منزه عن الكيفيات البشرية؟، هذا هو في اعتقادي مربط الفرس، أو على الأقل الحجة التي تٌخفي مؤامرة أيديولوجية عالمية حسب رأي المعارضين.
أعترف أنني لست متخصصا لا في مجال التربية ولا في العلوم الدينية، بل وقد لا أحوز حتى على أبجديتهما، إلا أنني سأدلو بدلوي في هذه القضية ناظرا إليها من زاوية مغايرة، محاولا تجنب الجدل العقيم الذي يتخندق أصحابه في قوقعاتهم الأيديولوجية، متحصنين بمعارفهم المطلقة والدوجماطيقية.
“الأطفال عباقرة وفلاسفة بالفطرة، كائنات متسائلة تسيطر عليها الدهشة، حتى إذا كبروا نمّطناهم وحولناهم إلى حمقى”.. (د.عدنان إبراهيم)
يقول آينشتاين: “كل زهرة من زهور الفضول المعرفي عند الفرد تٌسحق سحقا من طرف المجتمع نفسه”، وبحسب تعبير الدكتور عدنان إبراهيم: “الأطفال عباقرة وفلاسفة بالفطرة، كائنات متسائلة تسيطر عليها الدهشة، حتى إذا كبروا نمّطناهم وحولناهم إلى حمقى”.
يكاد يكون هناك اجماع من قبل المهتمين بمجال التربية على أن المنظومات التربوية والتنميط من خلال التنشئة الاجتماعية، هو ما يسحق ويكبح ذرة الفضول المعرفي لدى الأطفال.
أعود لسورة الإخلاص التي قيل بوجوب حذفها لأنها تستعصى على الفهم والإدراك في عقول الأطفال، هل حقا ما لا يفهمه الطفل هو فقط سورة الإخلاص؟ هل يفهم الطفل كل ما يلقن إليه في المدارس؟ وهل سورة الإخلاص مفهومة فهما عقائديا من قبل الفئات الأخرى في شتى المراحل التعليمية؟.
لماذا لا نحذف الدروس التي تلقن للأطفال مفاهيم تتناقض كلية مع الواقع، نٌعلِّم الطفل حب الوطن، في وطن سرعان ما سيشعر فيه بالغربة إذا كبر، نلقن الأطفال أن القانون فوق الجميع، لكنهم سيكتشفون أن القانون فوق الضعفاء فقط، نعلم الطفل أن “من جدّ وجد ومن زرع حصد”، في بلد يعيش على الريع، ويحصد فيه من لا يزرع.
نلقن الأطفال أن القانون فوق الجميع، لكنهم سيكتشفون أن القانون فوق الضعفاء فقط، نعلم الطفل أن “من جدّ وجد ومن زرع حصد”، في بلد يعيش على الريع، ويحصد فيه من لا يزرع..
إن الحديث عن منظومتنا التربوية هو حديث ذو شجون، فاللعنة تلاحقها منذ أن تشتّت الحركات الوطنية بين مٌطالب بالرجوع إلى سنة السلف الصالح، وبين من استهوته الحضارة الفرنسية والحداثة الأوروبية فأرتئ أن يحذو حذوهما، اتخذت هذه الأزمة فيما بعد العديد من المسميات، فتارة تجلت في صراع بين المعربين والفرونكوفونيين، وتارة أخرى بين أنصار الحداثة والمتمسكين بالأصالة، ومرة أخرى في شكل صراع ديني بين المتدينين والعلمانيين.
التدريس باللهجة الدارجة أو ما يٌطلق عليه “لغة الأم”، حذف البسملة، حذف سورة الإخلاص… جدل أٌثير هذه الأيام من قبل القائمين على المنظومة التربوية بحجة اصلاحها، هل نتمسك بالكتاتيب أو المدارس القرآنية ونعيد الاعتبار لمناهجها الدراسية؟ أم نٌعصرن التعليم من خلال تبني التجارب الفرنكوفونية أو الأنجلوساكسونية؟.
أعتقد أن المنظومة التربوية كانت ولا تزال ضحية لصراعات أيديولوجية تجلّت انعكاساتها بشكل واضح في المستوى المتدني الذي وصل إليه التعليم في الجزائر، تبني تجارب الدول التي حققت نجاحا في هذا المجال أمر معقول ومقبول، لكن الوقوع في فخّ الانتماء الأيديولوجي هو ما نستنكره ونرفضه، وما لا أستسيغه أكثر هو الإقتداء بالفاشل، فإذا كنا على يقين بأن من نسعى لتطبيق مناهجه يعاني أزمة خانقة في المجال نفسه، فكيف بنا إذا نتمسك بحلول أثبتت التجارب فشلها الذريع؟.
إن ما يهدم ويدمر التربية والتعليم، بشكل خاص، والمجتمع على العموم، هو هذا النظام الشمولي ذو الرؤية الأحادية، الذي لا يرى الصواب إلا في قراراته وتدابيره المركزية..
إذا كانت الحداثة الأوروبية التي بٌنيت أسسها على العقل ترزح تحت وطأة أزمات أخلاقية، ثقافية، قيمية واجتماعية خانقة، بل وأكثر من ذلك، أن عقلانية الحضارة الغربية هي من أفرزت هذه الثورات والحروب المدمرة في العالم أجمع، وفي المجتمعات العربية بشكل خاص، فكيف سنأمن إذا لحلولها الجاهزة التي نستوردها كما المأكولات التي نجهل مكوناتها؟
إن ما يهدم ويدمر التربية والتعليم، بشكل خاص، والمجتمع على العموم، هو هذا النظام الشمولي ذو الرؤية الأحادية، الذي لا يرى الصواب إلا في قراراته وتدابيره المركزية، فالجزائر بثرائها الثقافي وتعدد إثنياتها لا يمكن أن تٌختزل في برامج وانساق جامدة نابعة من رؤى وتصورات أيديولوجية ضيقة، أو أن تٌنمط منظوماتها المجتمعية وفق قوالب هجينة متناقضة مع بنيتها الثقافية والاجتماعية.
التنوع والاختلاف سنة إلهية، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة)، فكيف بكم تريدون تحويل هذا البلد الزاخر بالألوان إلى لوحة بالأبيض والأسود، الإمكانيات متوفرة، وعقول الجزائر متناثرة هنا وهناك، فلماذا تتركون أمر هذا البلد الثري والمتنوع لشخص واحد؟.
من أراد أن يتصارع ويٌبرز عضلاته، أيا كانت أيديولوجيته، فليفعل ذلك بعيدا عن التربية والتعليم، دعوا الأطفال وشأنهم، خلوا سبيلهم وافسحوا المجال لشغفهم المعرفي، حتى وإن بدا لكم أن بعض المعارف أكبر من عقولهم، فهم الفلاسفة وأنتم الحمقى، أنتم من تمتلكون عقولا ضيقة لا تستوعب إلا ما يتماشى مع مصالحها.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.