لم أكن أحلم مثل أقراني أن أكون طبيبًا أو طيارًا، بل كنت أحب فقط أن أكون مثل أبي، لقد كان مَثلي الأعلى في الحياة!
أذكر أن معلم اللغة العربية سألني عن أمنياتي حين أكبر فأجبته دون تفكير: “أريد أن أكون بطلا مثل والدي”.
كان أبي عبد المنعم يحياوي بطلا وطنيًا وأفريقيا في رياضة رفع الأثقال، لم أحضر أيًا من تتويجاته الكثيرة، لكن بيتنا مزدحم بالميداليات والألقاب التي توج بها وتشهد على مسار حافل بالإنجازات.
كان دائمًا معي، وكنت كل الوقت إلى جانبه، فأنا ابنه الوحيد، رافقني في أول يوم سجلت فيه في هذه الرياضة، في أول منافسة أشارك فيها، ويوم رصعت صدري بأول ميدالية، وفي يوم إصابتي أيضا…
فتحت عيني بصعوبة ووهن فوجدت نفسي ملقى على الأرض، فيما يقف بالقرب مني مذعورًا، كنت غير قادر على تحريك ساقي، وكانت تلك لحظة صعبة ومرعبة لا أرغب بتذكرها.
أُصبت بشلل تام في الأطراف السفلية، بسبب كسر أربعة فقرات في عمودي الفقري مع ضرر لحق بالنخاع الشوكي..
استعدت التفاصيل ما إن استرجعت وعيي، لقد كانت بطولة كأس أفريقيا للناشئين بالمغرب على الأبواب، وكنت أرغب في الفوز بميدالية ذهبية، خصوصا أن أرقامي كانت مبهرة بالقياس بأقراني.
بل وكان كثيرون يخبرونني أنني إن أكملت العمل بهذا النسق قد أنجح في الفوز بميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية، وأعوض فشل والدي مرتين في الحصول عليها، مع أنه كان قاب قوسين أو أدنى في برشلونة 1992 وأطلنطا 1996.
كنا نشارف على إنهاء التحضيرات قبل السفر إلى الدار البيضاء المغربية، في التدريب قبل الأخير قررت أن أرفع 120 كيلوغرام، ولم يكن والدي قد استطاع أن يرفع هذه الحمولة سوى بعد أن بلغ التاسعة عشرة من عمره.
كنت أحاول أن أتحداه وأنا الذي لم أجاوز السابعة عشرة، طبعًا لم يكن يعلم شيئًا عن هذا التحدي، ولو تواجد في قاعة التدريب، ما كان ليشجعني أبدًا على ما قررت أن أقدم عليه.
لا أعرف ما الذي حصل بالضبط، كان كل شيء على ما يرام، رفعت الوزن إياه كما اعتدت أن أفعل دائمًا، ثم اختفى كل شيء آخر من ذاكرتي، كأنما مسح من شريط عقلي دون أن يبقى منه أثر واحد.
لا أستحضر الآن سوى صورتي وأنا ملقى على الأرض، والعارضة والقطع الحديدية ملقاة كيفما اتفق.
كنت أتألم، عاجز وغير قادر على الحركة، العيون شاخصة من حولي ولا أحد بوسعه أن يشرح لي، لقد فهمت وحدي أنني فقدت وعيي أثناء رفع تلك الحمولة، فوقع كل ذلك الوزن على ظهري.
كان أبي الذي وصل بسرعة في روع من أمره، يتحرك في كل اتجاه، يرفع هاتفه ويعيد تشكيل رقم الإسعاف، يقترب مني ثم يعاود الابتعاد، كان يتحاشى النظر إلي وأنا في تلك الحال، إلى أن حضرت المركبة وركبت إلى المستشفى.
لو عاد بي الزمن إلى الوراء لسلكت الطريق نفسه، كان يمكن لهذا الحادث أن يقع في الشارع أو في البيت أو في مكان آخر غير قاعة التمرين.
أخبرنا الأطباء أنه يتعين السفر فورًا إلى الخارج، وهكذا بين ليلة وضحاها وجدت نفسي قعيدًا على الفراش غير قادر على خدمة نفسي.
قضيت أسبوعًا كاملا لا أفعل شيئًا غير النظر إلى السقف، مربوطا بحزام جلدي كي لا أتحرك، فيما يحاول الأطباء مساعدتي بلا جدوى، في غياب الإمكانات الضرورية لعلاج إصابة خطيرة كهذه.
بدأت حملة على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بعلاجي في الخارج، وبسرعة استجاب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وأرسلني إلى تركيًا، إلا أن الإجراءات استغرقت بعض الوقت الذي لم يكن في صالحي.
حين وصلنا تأزم وضعي بسبب التهاب رئوي حاد، مع مشكلة عويصة في التنفس، لقد كنت أشعر أنني أستنشق الأكسجين من أنبوب ضيق جدًا، فأحدث الأطباء ثقبا في عنقي لأجل أن يساعدني في التنفس بشكل طبيعي، كما عانيت من جراح في ظهري نتيجة بقائي طيلة الوقت على الفراش.
أتشوّق للوقوف على ساقي من جديد، متسلح بقوة عجيبة استمدها من والدي الذي يرافقني هنا في تركيا..
اكتفيت لأيام بالمغذيات لأنني لم أكن قادرًا على البلع، وكل هذه أمور لم تكن في الحسبان، فقد تعين حلها قبل بدء معالجة المشكلة الرئيسية.
المشكلة الرئيسية أنني أصبت بشلل تام في الأطراف السفلية، بسبب كسر أربع فقرات في عمودي الفقري مع ضرر لحق بالنخاع الشوكي..
وبرغم هذه المعطيات المقلقة، إلا أنني أنا أتشوّق للوقوف على ساقي من جديد، متسلح بقوة عجيبة استمدها من والدي الذي يرافقني منذ أسابيع هنا في تركيا، يعطيني القوة الضرورية التي احتجاها لمواجهة هذه الأيام الصعبة التي يعبر بها فتى يافع قلبه ممتلئ بحب الحياة.
أتحمل مسؤوليتي كاملة، ولا ألوم نفسي على شيء، ولو عاد بي الزمن إلى الوراء لسلكت الطريق نفسه، كان يمكن لهذا الحادث أن يقع في الشارع أو في البيت أو في مكان آخر غير قاعة التمرين.
أنا شخص مؤمن وأعرف أن الله يبتلي من عباده الصبورين والأقوياء، الآن كل أملي أن أقف على ساقي، لا لأجل نفسي وإنما لأجل والدي، فأنا أشعر أن ظهره هو الذي كُسِر لا ظهري وأن حياته متوقفة منذ ذلك اليوم.
سأكون قويًا لأجل أبي وسأقف بإذن الله على ساقي لأجله، سأعيش بقية حياتي انتظارًا لتلك اللحظة ولن أمل من انتظارها!
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.
تعليق 8465
ربي يشفيك
تعليق 8468
ريي يشفيك
تعليق 8469
ربي يشفيك بني
تعليق 8472
طفرت فيه ولكن ربي كبير وياقدر يوقاف