ما يحدث هذه الأيام بين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ورئيس مجلس الأمة بشير بومعزة كان صراعا غير منكافيء بين رؤيتين لإدارة شؤون الدولة. رؤية تستند إلى إرادة القوة والنزوع نحو الاستفراد بالحكم، ورؤية تطرح فكرة المشاركة واحترام المؤسسات الدستورية. وكان من الطبيعي أن تنتصر الإرادة الأولى في بلد تعود فيه دوما الكلمة الأخيرة إلى منطق القوة. وقد حدث الشيء نفسه تقريبا بعد الاستقلال حين اصطدمت نفس الإرادتين بين الرئيس بن بله وفرحات عباس وانتهت المواجهة بانقلاب دستوري شبيه بالانقلاب الذي حدث هذه الأيام.
بعد انتخابه على رأس الجمعية الوطنية طرح الليبرالي فرحات عباس مجموعة من الأفكار حول شرعية المؤسسات ودورها في دولة فتية، خرجت من حرب دامية مثخنة بالجراح. وكان فرحات عباس يسعى إلى جعل الجمعية العمومية محورا أساسيا وقطبا تأسيسيا لسياسة البلاد، وهيئة منتخبة ديمقراطيا، مخوّلة بصلاحيات واسعة لمراقبة العمل الحكومي، كما كان فرحات عباس مصرا على رفض هيمنة فكرة الأحادية والحزب الواحد، ويعمل جاهدا على تحييد سعي بن بله لإحياء طروحات برنامج طرابلس، الذي ما زالت جلسته مفتوحة إلى اليوم.
أما أحمد بن بله، فقد كانت نظرته مختلفة، تمثّل نزوعا واضحا نحو الديكتاتورية والحكم الفردي وإحكام القبضة الحديدية على كل المؤسسات التنفيذية والتشريعية. وكان يرفض الاختلاف والتنوع، ويطمح إلى تحجيم وتقزيم دور الجمعية وحصرها في مساعدة الحكومة على تحضير مشروع دستور، وليس التأسيس لسيادة البلاد.
منذ ذلك الوقت نشأ في الثقافة السياسية الجزائرية وفي الممارسة خلط في الصلاحيات وتداخلها، وهيمنة التنفيذي على التشريعي، ورفض الرقابة الشعبية، وهي كل المقومات التي أدت إلى الحكم الفردي، والتي عبّر عنها فرحات عباس بقوله:”إن هذا النظام محكوم عليه بطبيعة الأشياء إلى أن يتطور نحو هياكل فاشية”.
ومنذ ذلك الوقت نشأ في الثقافة السياسية الجزائرية وفي الممارسة خلط في الصلاحيات وتداخلها، وهيمنة التنفيذي على التشريعي، ورفض الرقابة الشعبية، وهي كل المقومات التي أدت إلى الحكم الفردي، والتي عبّر عنها فرحات عباس بقوله:”إن هذا النظام محكوم عليه بطبيعة الأشياء إلى أن يتطور نحو هياكل فاشية”.
انتصرت إرادة بن بله بمساعدة هواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة وآخرين، واعتمد مشروع الحكومة، بعد أن صادقت عليه إطارات الحزب في قاعة سينما “ماجيستيك”(الأطلس حاليا)، واستقال فرحات عباس بعد أن فشل في إقناع خصومه بضرورة الفصل بين السلطات ومسؤولية الحكومة أمام المجلس، وقال يومها بمرارة قولته:”لا يمكن “تعهير” الدستور في قاعة سينما (On ne prostitue pas la constitution dans une salle de cinéma)
وبعد ذلك كان مصيره السجن والإقامة الجبرية وتشويه السمعة. وفشل، أيضا، آيت أحمد في مشروعه حول الجمعية التأسيسية، وسار على طريق التمرد في بلاد القبائل، فالمنفى.
مأساة الجزائر ليست في دساتيرها، فهي عندنا كثيرة، وإنما مأساتها تكمن في كون كل رئيس جديد يسعى إلى وضع دستور على مقاسه.
– أحمد بن بله وضع دستورا على مقاسه سنة 1963
– هواري بومدين وضع دستورا على مقاسه سنة 1976
– الشاذلي بن جديد وضع دستورا على مقاسه سنة 1986
– اليامين زروال وضع دستورا على مقاسه سنة 1996
عبد العزيز بوتفليقة، الذي لا يحب دساتير بلاده، يريد الآن أن يخيط دستورا على مقاسه، خمسة دساتير في أقل من أربعين عاما، هذا لم يحدث في أي بلد آخر في العالم.
– وحتى عبد العزيز بوتفليقة، الذي لا يحب دساتير بلاده، يريد الآن أن يخيط دستورا على مقاسه، خمسة دساتير في أقل من أربعين عاما، هذا لم يحدث في أي بلد آخر في العالم. واعتقد أن دستور بوتفليقة الجديد لن يختلف، في شكله ومضمونه، عن سابقيه، بل وأجزم أنه لن يختلف حتى في مصيره، الذي عبّر عنه أحسن تعبير فيكتور هيجو بقوله:
ما نسمّيه ميثاقا أو دستورا هو عرين يحفره في الصوّان شعب ثائر كملاذ آمن وموثوق ثم يودع، وهو سعيد، في هذا الحصن المنيع كل فتوحاته وكل حقوقه التي دفع في سبيلها الثمن الغالي ويتخلى فيه عن حريته المتوحشة ثم يهدأ بعد ذلك وينصرف إلى أعماله يعود إلى حقوله مزهوا بحقوقه الجديدة وينام قرير العين على تواريخه الشهيرة وينسى أن يفكر في اللصوص المتسكعة في الظلمات وحين يصحو الشعب من غفوته ويحن لرؤية دستوره قلعة حكمه يجد، واحسرتاه، أن العرين المهيب تحول إلى حجرة كلب وضع فيه الشعب أسدا جسورا فوجد جروا حقيرا…
إلى آخر القصيدة.
هذا هو مصير كل الدساتير، أما مصائر أصحابها، فكانت عندنا:
– أحمد بن بله ذهب ضحية انقلاب عامين بعد دستوره!
– هواري بومدين رحل بعد عامين من دستوره!
– الشاذلي بن جديد استقال بعد عامين من دستوره!
– ليامين زروال قلّص عهدته عامين بعد دستوره!
– أما بوتفليقة، فالكل في انتظار دستوره ومصيره.
هذا المقال نشر في “الأهرام” اليومي في 25 ماي 2001.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.