من أكثر من عشرين عاما دخل علي طبيب، ممن يروّجون للأدوية، توظفهم المخابر لزيارة الأطباء في عياداتهم، يشرحون مزايا الدواء الجديد أو يذكّرون بالفعالية، (التي اكتُشفت حديثا)، لدواء قديم، و هم، في الغالب، أناس ظرفاء يُحسنون العرض، بفرنسية سليمة، هندامهم لائق.
هذه المرة كان شابا لطيفا فيه حياء المبتدئين وترددهم، حاولت أن أهوّن عليه دون فائدة، فقد ازداد تعرّقه عندما فاجأته بأن دواءه هذا (استاتين)، لن أكتبه لمرضاي، لأنه باهظ الثمن وفعاليته لم تبرهن بشكل قطعي في بلد المنشأ.
عاد بعد أشهر، وكان أكثر ثقة في نفسه، كرر لي نفس الخصال التي قالها لي في المرة الأولى، مضيفا، (بعد أن شكرني على حرصي على جيوب مرضاي)، أن صندوق الضمان الاجتماعي هو من يتولى دفع الدواء للمريض مجانا…
السيد صُعق، وقد كان ينتظر ابتهاجي، عندما قلت له إن هذا يزيد من ريبتي فيه… ورحتُ أسرد عليه، (ما اطلعت عليه حينها)، من أن الدواء، في بلد المنشأ يُعوَض بنسبة 60 في 100 وليس 100 في 100.. وزدت بأن أمثالي لن يصفوا دواءه.
الشوط الثاني
بعد أشهر جاءني ممثل نفس المخبر، هذه المرة كان أكبر سنا، معه مطويات كثيرة وكتيبات لأشهر الأساتذة يمدحون فعالية الدواء برسوم بيانية، كلها مُقدّمة في مطبوعات راقية الكلفة.
ذكرته برأيي وبكل ما قلتُ لزميله.. وقد لاحظت عنده سعة اطلاع دخلنا مجال الكلفة العلاجية.. والتناسب بين الثمن والنجاعة.. ووجدت أنه من النضج بحيث صارحته أن مشكل الجزائري، في الخمس الخالي، ليس الكلسترول، بل “شبعة الكرش”.. حتى وصلنا إلى سؤاله المركزي: “لماذا أرفض دواء مجانيا لمرضاي؟..” عندها ذكرته أن دواءه ليس مجانيا لأنه يُنهك صندوق الضمان، (ثمنه وقتها أكثر من ألفي دينار)، وأنا حريص على الـ”كناص” وعلى ديمومته.. وقد أنهى اللقاء عندما قلت له صراحة، رأيي في اللجنة التي تصنّف الأدوية إلى قابل وغير قابل للتعويض، و أني أشك أنها مخترقة من قبل الفساد والرشوة”.. ونسيت المخبر ودواء الكلسترول، ومرت أشهر.
الشوط الثالث
حتى جاءني رئيس جمعية مرضى السكري، يدعوني إلى “يوم دراسي دول الحمية لدى مرضى السكري”.. وأظهر حرصه على حضوري عندما ذكر أن ثلاثة أساتذة سيحضرون اليوم الدراسي، منهم البروفيسور بلحاج والبروفيسورة عيّاد، فقررت أن أكون بينهم، لأن بلحاج وعيّاد هما قمة اختصاص “ديابات”وهران.
وقبل الموعد بساعات علمت أن البروفيسورة عيّاد لن تحضر لطارئ، بينما بلحاج أكد وصوله رفقة بروفيسورة تغذية آتية من العاصمة..
وكان اللقاء في دار الثقافة، بعد عرض المختصيْن المقتضب والسلام على بلحاج من قبل طلابه القدامى، خُصصت قاعة فسيحة لعرض إرشادات خاصة بالسكري و النشاط الرياضي، وكانت هناك ملصقات ضخمة وعديدة لدواء الكلسترول إياه، وفي زاوية من القاعة كانت هناك حلقة من الأطباء يتوسطهم صاحبي، ممثل المخبر الذي لمحني مبتسما ليواصل شروحاته للأطباء.
علمت من رئيس الجمعية أن المخبر هو من تولى تنظيم “اليوم الدراسي” مشكورا.
كما نعلم أن نفس المخابر تتولى تنظيم لقاءات دولية لبروفيسوراتنا، في منتجعات شرم الشيخ والمغرب والتكفل بــ”تحويسات” مكلفة في عواصم دولية في غير متناولهم…
والأطباء العامون، (كأطباء الأسرة، المعالجين)، ملزمون بكتابة مثل هذه الأدوية، عند تجديد وصفة الطبيب المختص.
لكي أعود إلى هذا “الدواء”.. أعترف أنه في الوقت الذي غمرني ممثل المخبر بتلك الابتسامة الساخرة، (من سذاجتي)، في ذلك الوقت شعرت بالزهو.. بل أصبحت كالطاووس منتشيا..
واليوم يأتي بروفيسور فرنسي ” فيليب إفن”، ليقول نفس الشيء، لكن بعد اقتراب نهاية احتكار تصنيع الدواء من قبل المخابر الراشية، و شيوع إنتاجه كــ”دواء جنيس”، وبعد أن استنزف صندوق الضمان الاجتماعي، وقد كان الفساد الجزائري أول مموليه.
ونحن في نهاية 2017 لا نعرف المواصفات والشروط التي يجب أن تتوفر في اللجنة المشرفة على لائحة الأدوية المستفيدة من تعويضات صندوق الضمان الاجتماعي.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.