لا تزال الجامعة والمدرسة الجزائرية عموما، تعانيان صداعا في الرأس، ومرضا سياسيا مزمنا، يتسم تشخيصه عادة بالارتجال و''لحظة الانفعال'' على حساب الطلبة الذي أصبحوا دوما فئران تجارب..
صحيح أن الفرنسية تعاني موتا علميا وانكماشا عالميا وأن سدنتها، أبناء فرنسا بالتعبير السياسي في الجزائر وراء بقائها ربة البيت ”الجزائري” خاصة في الإدارة …
ولكن ثمة مطبّات، وثمة ارتجال في زحزحة الفرنسية، وإبعاد العربية كليا، فالسلطة تحاكي بامتياز المثل الشعبي (جاء يكحلها عماها).
ثمة مطبّات، وثمة ارتجال في زحزحة الفرنسية، وإبعاد العربية كليا، فالسلطة تحاكي بامتياز المثل الشعبي (جاء يكحلها عماها).
خلال السنة الدراسية المنصرمة، وبسرعة جنونية، وفجائية سياسية، تم إدراج الإنجليزية في السنة الثالثة جنبا إلى جنب مع الفرنسية والعربية، ثلاث لغات يقوم التلميذ الذي لم يتعد التسع سنوات، بدراستها وهو في الحقيقة لم يتمكن من الإلمام باللغة الأم، لغويا ونحويا وأداء وممارسة..
وانبرى الإعلام المضلل لخدمة صاحب القرار، وقطف الحصاد وقت الزرع! إذ عرضت مقاطع مبتورة بدقة واختيار، ظهر خلالها تلاميذ صغار ملكوا الانجليزية في ”عشرة أيام”! وهذا في نقيض لدراسات علمية أثبتت أن اللغة الأم تساعد الأطفال على التعلم، وتوصيات منظمة اليونسكو التي تؤكد على أن ”التعلم القائم على اللغة الأم يحقق نتائج ملموسة”.
اليوم ظهر مشروع كــ ”خبر عاجل” يتعالى على شتى الهموم والأزمات.. حسبما جاء في تقرير لقناة الشروق 05/12 شرعت بعض الجامعات (جامعة الجزائر01) في التحضير لتدريس مقاييس الجذوع المشتركة للعلوم الإنسانية باللغة الإنجليزية (في البداية الوحدات الأفقية والاستكشافية) وهذا في حركية متسارعة بعد أن وقع الاختيار على نحو 400 أستاذ تم تكوينهم واختيارهم لانطلاق التجربة !!
حقائق تاريخية وعلمية
ثمة قـفز على حقائق تاريخية وعلمية، فالجذوع الإنسانية والاجتماعية تدرس معظمها إلا نادرا باللغة العربية (جامعة بجاية استثناء)، وهذا نتيجة جهود وصراع مرير في قضية التعريب منتصف سبعينات القرن الماضي..
واعتبر تعريب الأقسام الإنسانية والاجتماعية في تلك الفترة، نصرا لسلطة ونظام بل كان فيما يبدو من الخطاب على الأقل “كفاح” وجبهة ثانية ضد مخلفات الاستعمار الثقافية والفكرية، وفي الحقيقة كان اعتماد العربية في الجامعة روحا متجددة لأمة ولغة طمست 132 سنة! بعد أن سبقتنا دول المشرق (مصر، سوريا، العراق) وحققت نتائج.
ولو كان هناك مغزى وجدوى يومها، لتم تدريس العلوم الإنسانية في وقت مبكر كعلوم الاتصال والتاريخ بالإنجليزية، خاصة وأن القائمين على عملية التعريب على المستوى السياسي والجامعي، بعضا منهم درس في الولايات المتحدة وأبرزهم رئيس كلية العلوم الانسانية في السبعينات مثل أبو القاسم سعد الله، والآخرون بالمشرق العربي مثل عبد الله ركيبي، عثمان سعدي…
فالأصل والمنطق واستنادا إلى دراسات في هذا الاتجاه، أن يكون تدريس العلوم الاجتماعية والإنسانية باللغة الأم، ويجب تثمين جهود معركة التعريب على مستوى الجامعات والمؤسسات الإعلامية وإدارات الحالة المدنية والقضاء منتصف السبعينات.
الأصل والمنطق واستنادا إلى دراسات في هذا الاتجاه، أن يكون تدريس العلوم الاجتماعية والإنسانية باللغة الأم، ويجب تثمين جهود معركة التعريب على مستوى الجامعات والمؤسسات الإعلامية وإدارات الحالة المدنية والقضاء منتصف السبعينات..
حيث توجت بقرار ولوائح مؤتمر الرابع لجبهة التحرير الوطني سنة 1979 بالتعريب الشامل للعلوم الاجتماعية بالجامعة، يبقى الأستاذ والطالب مطالب بالبحث عما استجد في الموضوعات باللغة الإنجليزية والفرنسية وبل ولغات أخرى مثل الألمانية خاصة إذا تعلق بعلوم الاجتماع للتعمق ومسايرة العلوم.
من هنا تزدهر حركة الترجمة، ويدفع الأستاذ والطالب لتعلم الانجليزية، ويبقى التدريس بالعربية لإبقائها لغة حية، والدفع بها أن تكون لغة علم وتدريس ومواكبة التطورات الحاصلة، وعدم تخريب مكتسبات سابقة بسبب نزوة رجل سياسي أو صراع نفوذ بين الكبار الذين لم يتركوا بلدا في ظل العولمة وتطور التقنيات إلا وغزوه بفكرهم وثقافتهم إن هم عجزوا عن نشر التقتيل بين أبنائه..
فتدريس العلوم الاجتماعية والإنسانية بلغة أجنبية مهما كانت، لن يجدي نفعا في الأصل أن تدرس العلوم الاجتماعية بالفرنسية بعيدة عن أي حسابات سياسية، لأن هذه العلوم استوطنت وتأسست في فرنسا وازدهرت في ألمانيا وغيرها، ورغم ذالك بذلت الجزائر جهود مضنية لتدرسيها بالعربية، وهو ما يجب أن يُثمن ويعّزز، ويأتي قرار هكذا دون تخطيط أو فتح نقاش دون جدوى كقرار شق ترعة أو تحطيم بناية..
أن تجربة جامعة بجاية في مسابقة الدكتوراه الخاصة بالإعلام والاتصال خلال السنة الجارية تعد مهزلة ولا تزال ماثلة، طلبة الجامعة يدرسون العلوم الاجتماعية والإنسانية بالفرنسية، وقد وقعوا أو أوقعتهم إدارة الجامعة في إشكالية، فلاهم تمكنوا من المشاركة في المسابقات بجامعات أخرى تدرس وتشترط الإجابة في المسابقات بالعربية، ولا هم تمكنوا من الظفر في المسابقة.
كما يروى أحد أساتذة جامعة إسماعيل ميرة الواقعة ببودواو أن يظفروا بمناصب التي فتحت في المسابقة بعد أن تفوق عليهم طلبة من خارج الجامعة درسوا الإعلام باللغة العربية ومتفوقون في لغات اخرى .
فليس المهم استخدام لغة أجنبية لتدريس ما يجب أن يدرس باللغة الأم! بل الأهم أن يكون الطالب الجامعي على إلمام باللغات لمسايرة العلوم والتعمق فيها، ومن خلال الارتجالية الجديدة يعكس ارتماء لغوي في حضن التيار الأنجلوفوني بعيدا عن العلمية التي يراد لها دوما كشجرة تخفي الغابة..
فقد تتبعنا في السنوات الأخيرة اهتمامات وخرجات كل من السفير البريطاني والأمريكي واهتمامهم بموضوع تدريس الإنجليزية في الجزائر ودول أخرى، ومن جهة أخرى مرة البلد لا يزال سياسيا على الأقل يجره تيار فرنسي!!
والواقع في الجزائر كان من المفروض الاتجاه نحو تدريس العلوم التقنية كالإعلام الآلي بالإنجليزية مطلقا، أما العلوم الإنسانية والاجتماعية فمشروع فاشل..
وإذا أضفنا كلمة في الموضوع على الهامش، للعرب قديما وفي واقعنا المعاصر إسهامات من البداية إلا إذا كان مخططوه يهدفون إلى التقليل وتنفير الطلبة القادمين إليه كالسيل حيث تشهد المقاعد البيداغوجية فائضا كبيرا في الجامعات ومردودا ضعيفا ونتائج مضخمة في غالب الأحيان، وضعف في استخدام اللغة العربية خطابا، وتعبيرا، وبحثا، لأن الشعب الأدبية في الثانويات وبالضبط اللغات تشهد ضعف منذ سنوات..
وهذا الواقع وقف عليه الخبراء، ضعفا رهيبا على مستوى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، عكس طلبة الشعب العلمية (وهذا من واقع تجربتي كمستشار بإحدى الثانويات) وطلبة الشعب العلمية يفضلون آليا التسجيل في الكليات العلمية كما هو متعارف عليه .
هل نضمن بقاء صحافة ”معربة” وتاريخ يعبر عن الهوية؟!
هناك كثير من الحسابات في الموضوع نجهلها، منها الظاهر والخفي وفي كل الأحوال أن كان في رأي المختصين والأكاديميين الكثير مما هو مقنع موضوعيا وعلميا، مما لا بدّ منه في واقعنا المعاصر فليكن، فهناك اعتبارات يجب الأخذ بها حفاظا على هويتنا ولغتنا العربية من التراجع والانكماش بل الاضمحلال، وهي اللغة الحية التي لا تزال عصية على الانكسار والغياب في وقت يشهد كل يوم زوال لغات أخرى..
فهل يمكن تدريس الإعلام والاتصال بالإنجليزية مطلقا، بمعنى آخر هل نضمن تخرج إعلاميين يكتبون المقال والتقرير والخبر الصحفي بالعربية؟! هل يمكن بعدها الاستمرار في إصدار صحافة عربية تعبر عن لسان حال المجتمع ولسان حال السلطة؟
ومن الحتمية أن ننتقل بالعربية إلى آفاق علمية واعدة، بدل أن تبقى لغة الشعر والأدب والعنتريات السياسية بدل إزاحتها من فضاء التدريس والبحث، بدعوة وحجة كما كان يتهمون الفرونكفليين خلال السبعينات الضعف فيها، لإبعادها عن الإدارة والتعامل اليومي، وعوض أن يدرس الطلبة مقياس التحرير الصحفي مثلا بالانجليزية نسعى لأن يمتلك الطالب اللغة الاعلامية بلسان عربي..
فالكثير من طلبتنا يتخرجون وليس في مقدرة أحدهم تحرير مقال صحفي بالعربية!!
فهناك خصوصيات واستثناءات، فهل يمكن الاعتماد على ما كتبه المستشرقون عن التاريخ الإسلامي، والحضارة العربية فالتاريخ الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، والفكر الخلدوني، وعلوم أخرى تعد في جامعاتنا مقاييس هامة ضمن ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية، يجب أن تدرس بالعربية لان أصولها وأساسها وقواعدها عربي خالص..
ويجب أن يعتمد فيها على المصادر العربية الموثوقة، والتعمق والبحث أكاديميا فيها مجددا، وفقا لأدوات منهجية عصرية، وان فهمها والتعمق فيها يكون بالعربية ومن هنا نكسب جانبا من الرهان ونفرض رؤيتنا .
فهل يمكن تدريس الإعلام والاتصال بالإنجليزية مطلقا، بمعنى آخر هل نضمن تخرج إعلاميين يكتبون المقال والتقرير والخبر الصحفي بالعربية؟! هل يمكن بعدها الاستمرار في إصدار صحافة عربية تعبر عن لسان حال المجتمع ولسان حال السلطة؟
والجزائر المستقلة منتصف السبعينات بذلت النفيس، وجابهت العقبات في مشروع تعريب الصحافة زمن وزير الاعلام أحمد طالب الإبراهيمي، وإبعاد الفرنسية عن هذا الفضاء الفكري والثقافي!
هل من الحتمي أن يدرس الطالب مقياس”قضايا معاصرة” في شعب الاعلام أو مقياس الصراع العربي الإسرائلي في العلوم السياسية لمعرفة وفهم وإدراك ما يجري؟ هل يمكن تدريس التاريخ الوطني بلغة غير اللغة الأم؟!
حين فشلت الانجليزية في ماليزيا!
في تقرير بجريدة الشرق الأوسط نشر في 28/02/ 2016 تحت عنوان ”أفضل الدول الرائدة عالميًا تدرس بلغاتها الأصلية” ضمن تغطية لتصريحات مديرة اليونسكو إيرينا بوكوفا، تشير دراسات أجريت عن تجربة ماليزيا الاقتصادية والصناعية، التي حققت لها نهضة متميزة في العالم..
بعد 6 سنوات من التجربة قررت ماليزيا إيقاف مشروع تدريس الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية والعودة إلى التدريس باللغة الماليزية «المالوية»، والسبب حسب ما جاء في القرار هو أن الدراسات التي أجريت على أكثر من 10 آلاف مدرسة أثبتت فشل التجربة وأن التدريس بالإنجليزية (غير اللغة الأم) أدى إلى تدهور مستوى الطلبة على المدى البعيد، وتدهور في مستوى أدائهم في الرياضيات)..
وهي التي تمثلت في مشروع اعتماد اللغة الإنجليزية في تعليم مبادئ العلوم والرياضيات بدل اللغة الماليزية، ووصف هذا المشروع بأنه «التنازل الأهم في مسيرة الصناعة الاقتصادية الماليزية».
وبعد 6 سنوات من التجربة قررت ماليزيا إيقاف مشروع تدريس الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية والعودة إلى التدريس باللغة الماليزية «المالوية»، والسبب حسب ما جاء في القرار هو أن الدراسات التي أجريت على أكثر من 10 آلاف مدرسة أثبتت فشل التجربة وأن التدريس بالإنجليزية (غير اللغة الأم) أدى إلى تدهور مستوى الطلبة على المدى البعيد، وتدهور في مستوى أدائهم في الرياضيات)..
الإنجليزية لغة العصر ولا شك، في مجال البحوث العلمية والتكنولوجيا، إذا علمنا أن خبراء اللغة يقولون (هناك مواد لا يمكن أن تخدم الهدف التعليمي منها إلا إذا درّست بلغتها الأصلية)، ولسنا ندري ما وراء محاولات تدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية باللغة الإنجليزية..
في وقت لا تزال العربية في هذه الحقول قادرة على العطاء والارتقاء وتحقيق الجودة، هل يندرج هذا المسعى ضمن الصراع الفكري كما كان الأمر مع التعريب ايام سطوة سدنة الفرنسية الذين اتهموا العربية يومها بالجمود، والرجعية، ولغة الجنائز ووضعوا المتاريس والعتاريس لعرقلة تعريب أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية .
خاصة وأن الإنجليزية من زاوية جسر ألي وأداة من أدوات الحداثة والعولمة وتذويب ثقافات الشعوب، ومن منطلق فلسفي إلا تعبر اللغة غالبا عن الفكر؟ إلى يومنا هذا لا تزال الآداب الوطنية والقومية لدول مثار جدل بشأن اعتبارها آداب تعبر عن الوطن الأم أن تتماهى مع سياسية وثقافة الاستعمار..؟
أنه بدل التفكير في جعل الكليات تبرمج نفسها في دائرة الأنكلوسكسونية بالمطلق، بعدما خرجت بشق الأنفس من شرنقة الفرنكوفونية، وسط صراع مرير كان يتهم فيها المعربون بالرجعية والتخلف!! وتخصيص ميزانية إضافية للتكوين.
فعين الحقيقة تقول أن تخصص تلك الأموال لتطوير التدريس بالعربية، وإعادة النظر في المناهج والمحاضرات بتنصيب لجان من أجل التدقيق والغربلة والارتقاء اللغوي لتدريس العلوم الإنسانية، والاجتماعية بلغة علمية راقية وجودة، تجاري التطورات العملية والمعرفية في الحقول المستهدفة …
وتبقى مقولة نعوم تشومسكي هذه الأيام مقولة خالدة لمن ألقى السمع من الأكاديميين والذين ينبشون بضبابية في مناطق ظل حين قال: (فاتني خير كثير بعدم تعلم العربية) وهو يدرك أهميتها العلمية.
قد كانت الكلمة عربية أول الأمر على لسان سيدنا ادم، ولقد كانت العلوم في البدايات عربية، وستبقى أن بقى حرص على ترقيتها والارتقاء بها.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.