زاد دي زاد - الخبر مقدس والتعليق حر

ملاحظة: يمكنك استعمال الماركداون في محتوى مقالك.

شروط إرسال مقال:

– النشر في “زاد دي زاد” مجّاني
– أن يكون المقال مِلكا لصاحبه وليس منقولا.
– أن يكون بعيدا عن الشتم والقذف وتصفية الحسابات والطائفية والتحريض.
– الأولوية في النشر للمقالات غير المنشورة سابقا في مواقع أو منصات أخرى.
– الموقع ليس ملزما بنشر كل المقالات التي تصله وليس ملزما بتقديم تبرير على ذلك.

اللغة العربية وصناعة التخلف في حفـريات محمد عابد الجابري

اللغة العربية وصناعة التخلف في حفـريات محمد عابد الجابري

ـ هل اللغة العربية الفصحى هـي أحد أسباب تخلف العرب؟
ـ هل هنالك علاقة بين تأخر الإنسان العربي وبين لغته العربية الفصيحة التي يتكلم ويفكر بها؟
- هل اللغة العربية الفصحى هي التي كبَّلت الإنسان العربي ومنعته من أن يمارس فعاليته الفكرية والعقلية من خلال ألفاظها القديمة ذات الخطابات العاطفية التي لا تحاكي نظام العقل بل تقدم نفسها بديلا عنه ؟

– هل اللغة العربية الفصحى هي التي شلًّت العقل العربي وجعلت منه عقلا بيانيا بلاغيا لا يهتم إلا بالألفاظ والأشعار على حساب المعاني والأفكار؟
– هل اللغة العربية الفصحى هي التي صنعت النظرة السحرية والأسطورية  la vision magique et mytique) (التي تحكم عقل الإنسان العربي المعاصر،على جميع مستويات وعيه وعلى مختلف طبقاته وشرائحه ؟
–  أليست خصائص أية لغة من اللغات هي شديدة الارتباط بخصائص الأمة التي تتكلم هذه اللغة فـ”كل أمـة تتكلم كما تفـكر وتفكر كما تتكلم” كما قال المفكر الألماني هردر  Heder.
– ألا يعلمنا الدرس الألسني الإبستمولوجي المعاصر أن اللغة ليست مجرد أداة للفكر بل هي أيضا القالب الذي يتشكل فيه الفكر؟
– ألم يقـل هيدغر أن اللغة هي بيت الإنسان،وأنه لا يمكننا أبدا الفصل بين اللغة والفكر والواقع ،فـق التحليلات العلمية التي قام جون سيرل  Seale  وغيره ؟؟
– فإذا كان الخلل يقبع في بنية اللغة العربية الفصحى ذاتـها، كما انتهت إليه حفريات الدكتور محمد عابد الجابري، فحتما سوف يأتي الفكر العربي معوقا ومشلولا،ويأتي واقع العرب فيما بعد أكـثر خللا وإعاقة و شللا ؟
– هـل الخلل في اللغة العربية الفصحى راجـعٌ :
 أولا إلى طريقـة الخليل بن احمد الفراهيدي في تقعيد اللغة العربية الفصحى،وثانيا إلى الاعتماد المطلق في عملية تدوين اللغة وجمعها على رواية الأعراب المتوحشين واتخاذهم وحدهم سلطة مرجعية،وثالثا إلى أخذ اللغة من قبائل مختلفة وليس من قبيلة واحدة مما أدى إلى ظهور كثرة المترادفات التي تشكو منها لغة الضاد ؟
– أليست طريقة ومنهجية الخليل بن احمد الفراهيدي في تأصيل اللغة العربية اعتمدت أساسا على الاشتقاق اللغوي،والاشتقاق في بنيته ونتائجه يكرس تفضيل اللفظ على حساب المعنى ومن ثم جاء الفصل بين اللغة والعقل وبين الفكر والواقع في ثقافة العرب وسلوكهم  ؟؟؟
– أليست طريقة ومنهجية الخليل هي التي أدت إلى ظهور التضخم في الألفاظ على حساب المعاني،وهي الطريقة هي التي جعلت من اللغة العربية لغة شعر وأدب وخيال،وليست لغة علم وفكر وعقل وفلسفة ؟
– هل طريقة الخليل بن احمد الفراهيدي في تقعيد اللغة العربية الفصحى هي التي جعلت العرب شكليون سطحيون يهتمون فقط بألفاظ القرآن الكريم وبرسومه وتزويقه والتفنن في ترنيمه بدل تدبر معانيه وتحريك أفكاره على صعيد الواقع  ؟
– وهل طريقة الخليل بن احمد الفراهيدي في تأصيل اللغة العربية الفصحى هي التي هَـمَشت مقاصد الشريعة (كما لاحظ ذلك الإمام الشاطبي) مما جعل إغلاق باب الاجتهاد بل إنغلاقـه نتيجة حتمية منطقية ؟
– لمـاذا بقيت اللغة العربية الفصحى ومازالت منذ زمن الخليل بن أحمد الفراهيدي لم تتغير لا في نحوها ولا في صرفها ولا في معاني ألفاظها وكلماتها ولا في طريقة توالدها واشتقاقها الذاتي ؟
– هل اللغة العربية الفصحى هي لغة لا تاريخية Anacronique لم تجدد بتجدد الأحوال ولم تتطور بتطور العصور والأزمان ؟
– هل اللغة العربية الفصحى هي لغة ميتة  Une Langue morteقد حُنِطت وجُمِّدت نهائياَ منذ عصر التدوين في قوالب صلدة جامدة … ؟
 – هل اللغة العربية الفصحى هي لغة تعلو على التاريخ لأنها محصورة الكلمات مضبوطة التحولات ولا يمكن أن تستجيب لمتطلبات التطور الزمني؟
– هل اللغة العربية الفصحى هي فعلا لغة تتعامل فقط مع الإمكان الذهني الخيالي والشعري،ولا تتعامل مع الإمكان الواقعي العملي،بغية تسمية أشياء العالم الحضاري التكنولوجي الذي يتفرج عليه العرب والذي يتعولم ويتعقد يوما بعد يوم في غياب العرب أوفي غيبوبتهم.
 
– لماذا العرب وحدهم من بين الأمم لهـم لغـتين:لغة عربية مكتوبة ولغة محكية شفوية دارجة هي أغنى بكثير من اللغة العربية الفصحى في التواصل اليومي ؟
– لماذا يفضل الإنسان العربي وعلى طول العالم العربي التحدث باللغة الدارجة،في بيته وفي الشارع ،بل وفي الجامعة ،وفي  كامل حياته اليومية العملية ؟
– ولماذا هجرت اللغة العربية الفصحى لسان العرب ولا سيما في التفاعل الاجتماعي وخارج إطار المدارس والجامعات ووسائل الإعلام ؟
– هل جمود اللغة العربية الفصحى وتحنطها في قوالب قديمة هو الذي أدى إلى انتقام هذه اللغة من نفسها لنفسها بـإفراز هذه اللغات الدارجة واللهجات العامية ؟
– هل اللغة العربية الفصحى هي ذاتها التي أوجدت الخلافات الحادة بين العرب أنفسهم؟
– هل اللغة العربية هي ذاتها التي ولدت التناقضات المذهبية العقائدية والفقهية ؟ وهل هذه اللغة هي التي عَمََّقت الاختلافات السياسية والاجتماعية في الواقع العربي ؟
– أليست خلافات العرب – أفرادا وجماعاتٍ- و منذ القديم إلى الآن،هي عند التحليل والحفر خلافاتٌ مَرَدُهَا في الأغلبِ الأعم إلى هذه اللغة العربية الفصحى ؟
– ألا يعترف علماء الأصول والفقه والعقيدة في كتبهم أن الخلاف بين المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة أو بين السنة والشيعة أحيانا أو بين الأشاعرة والماتريدية أو بين الصوفية والظاهرية أو غيرهم من الطوائف والملل والنحل هو خلاف لفظي سببه المباشر هـو اللغة العربية؟ولا مشاحة في الاصطلاحات حسب قاعدتهم التبريرية الإعتذارية المعروفة المشهورة ؟
–  ألا يعترف المتخصصون في لغة الضاد أن الإبداع في العربية الفصحى هو في التراكيب والمباني وليس في الأفكار والمعانى؟ ألا يعني ذلك أنَّ اللغة العربية هي لغة تركيبة تداولية لكنها لم تصبح بعد لغة علمية تواصلية ؟.
– أليست المحسنات البديعية التي يفتخر بها العرب من أهل الفصاحة والبلاغة والبيان،مهمتها الأصلية هي مهمة اببيستمولوجية خطيرة،وهي تعويض الفراغ العقلي عند المتكلم باللغة العربية الفصحى وإخفاء تناقضه في الفكر والتستر على فقر المعنى؟
– أليست المحسنات البديعية بمختلف أنواعها داخل اللغة العربية الفصحى هي التي أعطت لهذه اللغة سلطة اجتماعية مُدمرة وخطيرة تتمثل في الوظيفة التخديرية التمويهية لهذه اللغة خاصة لدى طالبي السلطة والسيطرة من محترفي الحكم من رجال السياسة ومن رجال الدين من خلال لعبهم بالكلمات العربية وبنغماتها الموسيقية لتجعل السامعين والمتلقين لخطابهم يتلهون بجمال النغم واللفظ وينسون وضوح الفكرة وإمكانية تطبقها على صعيد الواقع العملي؟ – ) وتفكيك خطب رجال الدين السياسة- الجميلة لفظا الخاوية معنا وفكرا وواقعا- هي أكبر نموذج على ذلك.(
– ألا يؤكد الدرس التاريخي السياسي العربي الرهيب أن خطاب السلطة عند العرب كان دائما وعبر التاريخ يتستر ويختفي تحت سلطة الخطاب ؟؟؟
 
– لكن ….هل الطعن في فعالية اللغة العربية الفصحى يعتبر طعنا مباشرا في الدين وفي الهوية ؟
وما علاقة اللغة بالدين وبالهوية وبالايدولوجيا ؟ وهل اعتمد جامعو اللغة العربية في عصر التدوين على القرآن الكريم ؟ أم أنهم تجاهلوا الذكر الحكيم واعتمدوا على الأعراب وحدهـم في جمع اللغة وفي تقعيدها ؟
ـ ألا ينبغي التفريق المنهجي العلمي بين اللغة العربية الفصحى من جهة وبين القرآن الكريم من جهة ثانية ؟
ـ أليست اللغة العربية الفصحى هي من صنع بشري إنساني يحتمل الخطأ،بينما القرآن الكريم هو نص إلهي مقدس معصوم ،وموحى به من طرف الله عز وجل ؟
ـ أليس الخلط بين اللغة العربية كمعطى تاريخي بشري وبين القرآن الكريم ،النص الإلهي الأقدس هــو خلط ايديوجي سافر يستعمله طلاب السلطة من رجال الدين أو السياسة بجهل مخلص فاجر حينا وبمكر وخدع أحيانا كثيرة ؟
ـ ألم يؤكد لنا التاريخ أن الذين جمعوا اللغة العربية الأوائل رفضوا الاعتماد على النص القرآني في عملية جمع اللغة بحجـة تعـدد قراءات القران الكريم ونزوله على سبعة أحرف ؟
ـ ألم يعتمد جامعوا اللغة العربية فقط على الأعراب وحدهم وعلى خشونة البداوة بتعبير ابن خلدون ولذلك جاءت العربية التي جمعوها من الأعراب فقيرة جدا بالمقارنة مع النص القرآني الذي تبنى كلمات غير عربية فعربها،وفقدت العربية كثيرا من الكلمات والمفاهيم الواردة في القرآن الكريم والتي كانت رائجة أيضا في مكة والمدينة خاصة الكلمات الحضارية ؟
ـ أليست اللغة العربية لغة المعاجم والنحو،هي أقل اتساعا واقل مرونة من لغة القرآن الكريم ؟
ـ أليست اللغة العربية المجموعة من الأعراب هي لغة عاجزة عن استيعاب مقاصد القرآن الكريم كامل الاستيعاب ؟؟
ـ أليست لغة القرآن الكريم أكثر تحضرا،وأوسع وأخصب من لغة المعاجم المجموعة من الأعراب ؟
ـ ألم ينعكس كل هذا على فهم القرآن الكريم من طرف العرب أنفسهم فكثيرا من الكلمات الواردة في هذا الكتاب المبين لا تجد لها معاني مضبوطة في هذه اللغة الأعرابية فظلت وما زالت محل خلاف متواصل وسيبقى الأمر كذلك على الأقل في المدى المنظور.
ـ أليس أخـذ اللغة من قبائل مختلفة (وليس من قبيلة واحدة) أدى إلى ظهور كثرة المترادفات في اللغة العربية (ولا يرجع الأمر إلى وجود اختلافات دقيقة في المعنى بل يرجع إلى اختلاف المصادر التي أخذت منها الكلمة. الشئ الواحد تسميه قبيلة باسم وأخرى باسم وثالثة باسم أخر وبما أن اللغة أخذت من قبائل متعددة فلابد أن تتعدد الأسماء والمسمى واحد).
 
ـ وفي الأخير هل اللغة العربيـة الفصحى هي سر من أسرار تخلف العرب ؟؟ أم أن الأزمـة هي في الواقع العملي ليست أزمة لغة بقدر ما هي أزمة أهـــــــل تلك اللغة … أزمتهم في تخلفهم وتقاعسهم عن تطوير لغتهم وإحيائها وإنقاذها من الموت التاريخي الحضاري المحقق بكل أنواع الإنقاذ وبكل أشكال الإحياء والتطوير؟؟؟
 
المـرجـع:
 
مرجعي ومُتـكـئي للإجابـة على هذه الأسئلة وتحليلها،هي أعمال الباحث المغربي الكبير الدكتور محمد عابد الجابري صاحب مشروع نقد العقل العربي.
في الجزء الأول من هذه الورقة سوف استعرض- بالمختصر المعتصر المفيد- إلى حفريات الأستاذ الجابري داخل أروقة العقل البياني العربي،وتشخيصه للعوائق الابستمولوجية فيه،وفي الجزء الثاني سوف أحاول نقد أفكار الجابري من خلال أعمال باحث مبرز أخر وصاحب مشروع فكري أيضا هو مشروع نقد النقد:الدكتور جورج طرابيشي.
 
 
خطـوات البحـث:
 
منهجيا سـأقارب الموضوع مفهرسا حسب الترتيب التالي:
 أولا: استعراضٌ كرونولوجي للمعطى التكويني لعملية تدوين اللغة العربية وطريقة جمعها من الأعراب،ومنهجية الخليل بن احمد الفراهيدي،وبداية تشكل العقل العربي،وقراءة الدكتور الجابري لمختلف تطورات تلك العملية.
ثانيا: تحليل تفصيلي لمكامن الخلل في بنية اللغة العربية وإظهار سلبيات ذلك على صعيد الفكر والواقع المعاصر وفق تحليل الجابري.

عـملية تدويـن اللغـة العربيـة وصـيرورتها التـاريخية:
 
يرى الأستاذ الجابري إن الخلل في اللغة العربية الفصحى يعود أولا إلى البدايات الأولى إلى عصر التدوين ،الإطار المرجعي le cadre referencielللعقل العربي، ذلك العصر الذي تم فيه تدوين اللغة العربية ونقلها من مستوى اللاعلم إلى مستوى العلم… فجمع مفردات اللغة وإحصاءها وضبط طريقة اشتقاقها وتصريفها ووضع قواعد لتراكيبها،واختراع علامات لرفع اللبس عن كتاباتها… كـلُ ذلـك لا يمكـن أن يوصـف بأقـل من إنشاء علـم جديـد هـو علـم اللغـة العربيـة، لا بـل إنشـاء لغـة جـديدة هـي اللغـة العربية الفصحى.
 
مـنهجية الخـليـل بن احمـد الفـراهيدي:
 
لقد اتجه الخليل بن احمد الفراهيدي بحاسته الموسيقية المرهفة إلى الشعر فاستخلص منه القوالب الخفية اللامرئية واتجه بعقله الرياضي إلى وضع قوالب نظرية افتراضية لا تعدم أصولا في واقع اللغة فـوزَّع عليها النطـق العربي منـطلقا من الإمكان الذهني غـير أبـهِ بالإمـكان الـواقعي إلا في مرحـلة التجربة والتـحقيق.المرحلـة التي يتـم فيـها الانـتقال مـن العلـم الرياضي الصـوري إلى العلـم الواقعـي المشخص، وتعـامل الخليل مع الحروف الهجائية الثمانية والعشرين كمجموعة أصلية واستقى منها كل المجموعات الفرعية الكامنة فيها و التي تشمل على عنصرين إلى خمسة عناصر و لاحظ الخليل إن الكلمات في العربية هي إما ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية مستنفذا كل التراكيب الممكنة فقام بعملية الاشتقاق الصناعي التوليدي ( مثلا: بد، أدب، باد، داب، دبا….) مسقطا المكرر إلى أن تم له استخراج جمع الألفاظ التي يمكن أن تتركب من الحروف الهجائية العربية من حرفين إلى خمسة حروف فبلغت الألفاظ التي جمعها حسب ما ينقله بعض المؤرخين 12305412 لفظ أو مجموعة حروف ثم اخذ يفحص هذه الألفاظ / المجموعات فما وجده مستعملا مثل ضرب أبقاه وسجله وما وجده غير مستعمل مثل كلمة جشص التي لا وجود لها في لسان العرب أهملها.
 
جمـع اللغــة من الأعــراب وحدهــم:
 
في عصر التدوين اتجه جامعـوا اللغـة ورواتها إلى البـادية والى الأعـراب الأقـحاح، وأصبـح القرن الثاني الهجري إحترافا انقطـع فيـه رجـال مقتـدرون أمـثال أبي عمر بن العلاء المتوفى سنة 154هـ وحماد الرواية المتوفى سنة 155هـ،والخليل بن احمد الفراهيدي المتوفى سنة 170هـ ، وكان أهـم شرط وضعـوه فيـمن يصـح اخـذ اللغـة عنـه،أن يـكون خـشنا في جـلده،فصيحا في لسانه… ولقد أدى التهافت على الأعراب والاعتماد عليهم في ضبط اللغة وتقعيدها أن أصبح العلماء يعتبرون الأعراب معصـومون من الخـطأ اللغـوي ليـس بسبب إيمانهم بذلك بـل من أجـل أن لا ينسـحب الخـطأ على القـواعد التي شيـدوها انـطلاقا من نطقـهم وكلامـهم.
 
 
تشكيـل العقـل البيـاني العــربي:
 
إذا كان الخليل بن احمد لم يتمكن من إنهاء مشروعه الضخم فان عمل اللغويين الذين جاوؤا من بعده مباشرة كان محصورا أو يكاد في إتمام هذا المشروع كمقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150 هـ الذي اهتم بظاهرة تعدد دلالة الكلمات والعبارات في القرآن الكريم ،خاصة في كتابه “الأشباه والنظائر” ثم أبي زكريا يحي بن زياد الفراء المتوفى207 هـ الذي تناول في كتابه ” معاني القرآن ” ظاهرة التجوز والاتساع في الخطاب القرآني وقام بعده معمر ابن المثنى المتوفي سنة 215 هـ وتناول الأساليب البلاغية والبيانية في القرآن الكريم من خلال كتابه “مـجاز القران ” ثم جاء بعده محمد ابن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ وكان هو أول واضع لقوانين تفسير الخطاب البياني العربي بل إن الشافعي هو المشرع الأكبر للعقل العربي وواضع الأصول ومصادر التشريع (الكتاب السنة الإجماع والقياس) ثم جاء الجاحظ المتكلم المعتزلي ولم يعـتن فقـط بالبيان والفـهم في كلام العرب فحسب بل اهتـم ولـربما بدرجـة أولى بقضية التبيين   و الإفهام ثم جاء ابن وهب بكتابه “البرهان في وجوه البيان ” ولقد أراد أن يجمع شتات البيان وينظم مسائله ليظهر كنظرية عامة في المعرفة البيانية المضمون والاتجاه ثم جاء سبيويه وألف كتاب “الكتاب” واتجه بالدرس النحوي العربي إلى التداخل بين اللغة والمنطق ثم ابن جني في كتابه” الخصائص ” وميز بين الدلالة اللفظية والدلالة الصناعية والدلالة المعنوية ثم آتي الحسين البصري المتوفى في سنة 486 هـ بـكتابه”المعتمد ” ثم توالت الكتب والمصنفات ككتابي”دلائل الإعجاز” و” أسرار البلاغة ” لعبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471هـ وتأسيسه لنظرية النظم الجرجانية التي كانت تتويجا لمناقشات واسعة دامت أزيد من قرنين ونصف ساهم فيها فقهاء وأصوليون ونحاة و بلاغيون ومتكلمون من أمثال أبي علي الجبائي المتوفى سنة 303هـ وابنه هاشم المتوفى سنة 332 هـ والرماني المتوفى سنة403 هـ والقاضي عبد الجبار المتوفى سنة415 هـ وقدامة ابن جعفر المتوفى سنة 377هـ وأبي هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ وابن رشيق المتوفى سنة456 هـ وغيرهم.وبهذا يكون قد تشكل في التراث تيارا فكريا وثقافيا سماه الدكتور الجابري بالعقل البياني العربي إلى جانب عقلين آخرين هما العقل البرهاني والعقل العرفاني.
 


استـنتاجــات:
 
أولا: نتائج الاعتماد على منهجية الخليل بن احمـد
 
لقد انطلق الخليل بن احمد الفراهيدي من الإمكان الذهني فتعامل مع الحروف الهجائية العربية تعاملا رياضيا صرفا،فحصر الألفاظ الممكن تركيبها. وهذا المبدأ لابد أن يجعل العربية من صنع الذهن بدل أن تكون مهمتها تسمية أشياء الواقع المتغير وفي هذه الحالة ستنقلب العملية من عملية جمع اللغة إلى عملية التماس سند واقعي لفرض نظري ولقد كان من الطبيعي والحالة هذه أن يتحكم القياس بدل السماع فالكلمات صحيحة لأنها ممكنة وليس لأنها واقعية فطريقة الخليل جعلت اللغة العربية في قوالب جامدة نهائية لغة محصورة الكلمات مضبوطة التحولات لغة لا تاريخية لأنها لا تجدد بتجدد الأحوال ولا تتطور بتطور العصور. وبقيت اللغة العربية ومازالت منذ زمن الخليل لم تتغير لا في نحوها ولا في صرفها ولا في معاني ألفاظها وكلماتها ولا في طريقة توالدها الذاتي،لغة تعلو على التاريخ ولا تستجيب لمتطلبات التطور ولذلك انتقمت اللغة لنفسها وأفرزت لهجات عامية كانت ولا تزال أغنى بكثير من اللغة العربية الفصحى في التواصل اليومي.
 
ثانيا: نتائـج الاعـتماد على الأعـراب وحدهـم
 
لقد رفض جامعوا اللغة العربية الاعتماد على النص القرآني في عملية جمع اللغة لتبريرات وأسباب معروفة واعتمدوا فقط على الأعراب وعلى خشونة البداوة بتعبير ابن خلدون ولذلك جاءت العربية التي جمعوها من الأعراب فقيرة جدا بالمقارنة مع النص القرآني الذي تبنى كلمات غير عربية فعربها وفقدت العربية كثيرا من الكلمات والمفاهيم الواردة في القرآن الكريم والتي كانت رائجة أيضا في مكة والمدينة خاصة الكلمات الحضارية فكانت اللغة العربية لغة المعاجم والنحو اقل اتساعا واقل مرونة من لغة القران وبالتالي اقل تحضرا منه وهذا ما جعل القران يبقى دائما أوسع وأخصب من لغة المعاجم المجموعة من الأعراب وهي عاجزة عن استيعاب القرآن الكريم كامل الاستيعاب وكان طبيعيا أن ينعكس هذا على فهم القرآن الكريم من طرف العرب أنفسهم فكثيرا من الكلمات الواردة في هذا الكتاب المبين لا تجد لها معاني مضبوطة في هذه اللغة الأعرابية فظلت وما زالت محل خلاف متواصل وسيبقى الأمر كذلك على الأقل في المدى المنظور.
كما أن أخذ اللغة من قبائل مختلفة وليس من قبيلة واحدة أدى إلى ظهور كثرة المترادفات التي تشكو منها لغة الضاد والتي ترجع إلى جزء منها لا إلى وجود اختلافات دقيقة في المعنى بل إلى اختلاف المصادر التي أخذت منها الكلمة الشئ الواحد تسميه قبيلة باسم وأخرى باسم وثالثة باسم أخر وبما أن اللغة أخذت من قبائل متعددة فلابد أن تتعدد الأسماء والمسمى واحد.
 
ثالثا : نتائـج ذلك كله على العقل العـربي
 
الاعتماد على الأعراب والاعتماد على منهجية الاشتقاق الصناعي على طريقة الخليل بن احمد أدت إلى تكريس النظر إلى الألفاظ كفروض نظرية أو ممكنات ذهنية بحيث أصبح اللفظ يتمتع بكيان مستقل نسبيا على المعنى وهذا ما اختاره البيانيون كلهم منذ الخليل ومرورا بالشافعي إلى أبي الحسين البصري والجاحظ إلى الجرجاني والسكاكي وابن وهب ووصولا إلى العصر الحالي فاختاروا جميعا إعطاء الأولوية للفظ على حساب المعنى والإعلاء من شان الألفاظ وتهميش المعنى يقول الجاحظ في نص مشهور له ” المعاني مطروحة على الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي وإنما الشأن إقامة الوزن وتخيير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وصحة الطبع وجودة السبك “
 
ونتائج هذا كله هو الفصل بين اللغة والفكر في جميع تخصصات اللغة وعلومها
 
أ-     في مجال النحو أدى ذلك إلى أن أصبح الدرس النحوي العربي درسا منطقيا صرفا.
ب-  في مجال الفقه أدى ذلك إلى الاهتمام بألفاظ القران الكريم و تهميش مقاصد الشريعة كما لاحظ ذلك الإمام الشاطبي مما جعل إغلاق باب الاجتهاد بل انغلاقه نتيجة حتمية والسقوط بالتالي في إشكاليات التعليل.
ج-    في مجال علم الكلام أدى الفصل بين المعنى و اللفظ إلى انخراط علماء الكلام في ثلاث قضايا قضية خلق القرآن مسألة التأويل ومسالة الإعجاز البياني و الإعجاز العلمي مؤخرا.
هـ- أما في مجال البلاغة فكان الدخول في إشكالية اللفظ والمعنى اشد وأقوى فتقيد البلاغيون بالمواضعة اللغوية مواضعة السلف تحديدا واعتبروها سلطة مرجعية لا تطالها أية سلطة وصارت عندهم السلطة للفظ أي للمحسنات البديعية والحرص على النغمة الموسيقية وهذه المحسنات البديعية بمختلف أنواعها تقوم حسب الدكتور الجابري بمهمة اببيستمولوجية خطيرة هي تعويض الفراغ وإخفاء التناقض على صعيد المعنى والفكر.
إن النغمة الموسيقية المرافقة للخطاب المسجوع توجه السامع إلى نظام الكلمات وتصرفه بالتالي عن نظام الأفكار مما يجعله في حالة إغفاء عقلي تسمح للمعنى إذا كان ثمة معنى بالانسياب إلى لاوعيه بدون رقابة عقلية فيقبله بدون نقاش .والمتكلم في هذا كالسامع سواء بسواء لان المتكلم هو السامع لكلامه يسمعه حين إنتاجه كما يسمعه حين إرساله وتبليغه للغير والخطاب في اللغة العربية يعطل الرقابة العقلية لدى السامع والمتكلم و النغمة الموسيقية المكثفة التي ترافق المحسنات البديعية تغطي على فقر المعنى و تخفي التناقض في الأفكار وهنا تحديدا الوظيفة التخديرية للغة خاصة عند من يمارسون السلطة السياسية أو الدينية فخطاب السلطة كان دائما يتستر بسلطة الخطاب.
 
الخـلاصـة
 
نقاط الضعف الأساسية في اللغة العربية الفصحى حسب حفريات الدكتور الجابري جاءت أصلا من اعتماد العرب على منهجية الخليل بن احمد الفراهدي  لأن:
1-               طريقة الخليل حنطت وحجمت اللغة العربية في قوالب جامدة صلبة ومنعتها من التطور والتجدد وهذا معنى  لاتاريخية  اللغة العربية.
2-               طريقة الخليل اهتمت بالإمكان الذهني بدل أن تكون مهمة اللغة في أي مجتمع هي تسمية أشياء الواقع و معطياته المستجدة.
3-               طريقة الخليل أدت إلى ظهور التضخم في الألفاظ على حساب المعاني.
4-               طريقة الخليل اعتمدت على الاشتقاق،والاشتقاق يكرس تفضيل اللفظ على حساب المعنى ومن ثم الفصل بين اللغة والعقل بين الفكر والواقع.
5-               طريقة الخليل كبلت العقل العربي ومنعته من أن يمارس فعاليته الفكرية في هذه اللغة وبواسطتها.
6-               ضعف اللغة العربية الفصحى هو نتيجة للاعتماد المطلق على رواية الأعراب المتوحشين واتخاذهم وحدهم سلطة مرجعية في عملية تدوين اللغة العربية.
7-               امتناع جامعي اللغة العربية الأوائل عن اتخاذ القران الكريم كمرجع لهم أدى إلى أن أصبحت اللغة العربية لغة المعاجم والنحو اقل اتساعا واقل مرونة من لغة القرآن الكريم.
8-               تحجيم اللغة بطريقة الخليل أدى إلى انتقام اللغة لنفسها بفرز لهجات عامية كانت ولا تزال أغنى بكثير من اللغة العربية الفصحى في التواصل اليومي.
9-               إعطاء الأولوية للفظ على المعنى أدى إلى الحرص المحسنات البديعية وهذه المحسنات البديعية تقوم بمهمات ابستمولوجية خطيرة هي تعويض الفراغ وإخفاء التناقض على صعيد المعنى والفكر وتجعل الكلام يحمل فائضا في الألفاظ ويجعل الأذن تنوب عن العقل في الرفض والقبول.
10-          النتيجة هي أن اللغة العربية لغة المعاجم والآداب والشعر وبكلمة واحدة لغة الثقافة ظلت وما تزال تنقل إلى أصحابها في العصر الراهن عالما يزداد بعدا عن عالمهم، عالما بدويا صحراويا يعيشونه في أذهانهم وفي خيالهم ووجدانهم عالم يناقض مع العالم الحضاري التكنولوجي الذي يعيشونه والذي يتعولم ويتعقد يوميا.
 
صفوة القول أن العقل العربي مكبل بهذه اللغة القديمة ذات الألفاظ الموظفة في خطابات عاطفية لا تحاكي نظام العقل بل تقدم نفسها بديلا عنه ولا تسمي أشياء الواقع المعاصر بل تتعامل مع ما لم يحدث وكأنه حدث فعلا وتلك هي النظرة السحرية la vision magique التي تحكم الإنسان العربي المعاصر على جميع مستويات وعيه فاللغة العربية الفصحى هي سر من أسرار تخلف العرب.
 
تلك هي نتائج حفريات الدكتور محمد عابد الجابري داخل بنائية اللغة العربية وتلك هي زبدة قراءاته العميقة في محددات وتجليات العقل البياني العربي.
ولا شك أن دراسات الجابري هذه قد خالفه فيها مفكرون آخرون منهم الدكتور جورج طرابيشي الذي له هو أيضا أطروحته المعرفية المستقلة والمتناقضة تناقضا صارخا مع ما ذهب إليه الجابري والتي سوف نتعرف عليها لاحقا.
 
 
 
 
مراجــــــع البحــــــــث :
ـ الجابري،بنية العقل العربي دراسة نقدية تحليلية لنظم المعرفة في الثقافة العربية،مركز دراسات الوحدة العربية ،الطبعة الخامسة ماي،1995م،بيروت.
ـ الجابري،تكوين العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية،. الطبعة الأولى،دار النشر المغربية،الدار البيضاء،2001م،توزيع المركز الثقافي العربي.

 

 

 


باحث في الأنتروبولوجيا
جامعة تلمسان الجزائر

ads-300-250

المقالات المنشورة في هذا الركن لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

كن أوّل من يتفاعل

تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.

فضلا.. الرجاء احترام الآداب العامة في الحوار وعدم الخروج عن موضوع النقاش.. شكرا.