حين زرت أوسلو، عاصمة النرويج، قبل عشرين سنة، لمست في حديثي مع المثقفين والبسطاء من الناس هناك ما يكنّه الشعب النرويجي من حب واحترام للشخصية الآسرة في الأدب النرويجي والعالمي كنوت همسن Knut Hamsun، حب يكاد يبلغ التقديس، حوّل هذا الكاتب إلى أسطورة يرويها النرويجيون لأبنائهم على تعاقب الأجيال.
لا يكمن تصوّر ما يحظى به همسن من تبجيل واهتمام وعناية، إلاّ لمن أتيحت له زيارة النرويج. فكتبه تطبع سنويا بآلاف النسخ، وهي مقرّرة في المناهج الدراسية، وأغراضه محفوظة بكل حرص، وكأنّها ذخائر، وتماثيله منصوبة في الساحات العمومية. أما الملتقيات والندوات حول أدبه، فتقام دوريا، بلا انقطاع.
وكنت حين أذكرّهم ببعض مواقفه، مثل كرهه للأنجلوسكسونيين، وبغضه لليهود، واعتباره لهم سبب كل شرور العالم، وتأييده المتحمس لهتلر، وولائه للقوات النازية حين احتلت بلاده، يستغربون إلحاحي وسؤالي، ففهمت في الأخير أن همسن، بالنسبة إليهم، هو كاتبهم الوطني، وعدا صفة الكاتب لا تهمهم كثيرا مواقفه السياسية والاجتماعية. فقد غفروا له كل ذلك، واعتبروها تفاصيل تافهة، إذا قورنت بما قدّمه همسن من تجديد للأدب النرويجي.
ولا يكمن تصوّر ما يحظى به همسن من تبجيل واهتمام وعناية، إلاّ لمن أتيحت له زيارة النرويج. فكتبه تطبع سنويا بآلاف النسخ، وهي مقرّرة في المناهج الدراسية، وأغراضه محفوظة بكل حرص، وكأنّها ذخائر، وتماثيله منصوبة في الساحات العمومية. أما الملتقيات والندوات حول أدبه، فتقام دوريا، بلا انقطاع.
والواقع أن لهذه العناية ما يبرّرها، فكنوت همسن هو من كان وراء ثورة الرومانسية المحدثة في تخوم القرنين الأخيرين في أدب بلاده الفتيّ، وهو الذي أرسى تقاليد التجديد والنزعة الطليعية في النرويج، بل إن البعض يعتبره الأب الروحي للاتجاه العبثي في الأدب والعدمية المطلقة.
والنرويجيون يحبّونه، فوق ذلك، لما وجدوه في شخصيته من تفرّد وسحر وغرابة، وما لمسوه في معارج حياته من قلق دائم وشكّ معذّب.
ألقيّ القبض على الكاتب كنوت همسن، وجرت محاكمته سنة 1948، وعمره آنذاك 87 سنة، بسبب مواقفه المعادية للديمقراطية، وتعاونه مع العدو، ودعونه للتطهير العرقي. ورغم تمسّك الكاتب بآرائه، ودفاعه عن مواقفه، قرّرت المحكمة العفو عنه بسبب تقدّم سنه.
ولعل الجانب الآخر الآسر في همسن، هو أن شخصيات رواياته، هي صورة من نفسه المعذّبة التائهة. فما يكتبه عن أبطاله يشبه الدراسة النفسية المحللة للأفعال المادية والوجدانية لذاته، وتصدر عن شخصياته ردود فعل عصبية ولا عقلانية، شبيهة بما عرف عنه في حياته المتقلّبة، وهو في هذا الجانب متأثّر، بلا شك، بالكاتب الروسي الشهير فيدور دوستويفسكي.
وكل مؤلفات كنوت همسن، التي نال عنها جائزة نوبل للآداب سنة 1920 “الجوع” أو “أسرار” أو”الفصل الأخير” أو”الحلقة المفرغة” وغيرها… هي تصوير للإنسان الوحيد الهائم على وجهه، العائش على هامش المجتمع، الباحث دوما عن شيء ما لا يدركه، وهي في الوقت نفسه تمجيد لمغامرة التحرّر من القيود الاجتماعية، وتعبير عن رفض الحضارة الرأسمالية المادية، ودعوة للعودة إلى دفء الأرض وكنف الطبيعة.
لهذا تبنى همسن، تحت تأثير الفيلسوف نيتشه، النظرية النازية، وأيّد المشروع الهتلري، ورأى فيه خلاص الإنسانية. وكان موقفه هذا شبيها، إلى حد بعيد، بموقف الشاعر عزرا باوند من الفاشية الايطالية.
ولا نبالغ إذا قلنا إن همسن يعتبر في تاريخ الأدب رائد الرومانسية المحدثة، وفاتحا للأدب السيكولوجي بلا منازع، باستعماله لتيار الوعي والمونولوج الداخلي. وأثّر تأثيرا واضحا في أكبر كتّاب القرن العشرين (توماس مان، ستيفان تسفايغ، هيرمان هسه، فرانز كافكا، مكسيم غوركي، هنري ميللر، أرنست همنغواي وغيرهم…).
ومن يقرأ مؤلفات همسن، بتمعّن، يجد، بلا شك، أن مواقفه السياسية والاجتماعية ما هي إلاّ استمرار طبيعي ومنطقي لجوهر أدبه. فاللعنة التي لحقت به، هي اللعنة نفسها، التي تطارد أبطاله. لقد اشتهر همسن منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر بمواقفه المعادية للديمقراطية، وكرهه للأنجلوساكسون، وبغضه لليهود، الذين كان يعتبرهم أسباب المآسي التي لحقت بالإنسانية من جراء سيطرة القيّم المادية ومنطق القوة.
ولهذا تبنى همسن، تحت تأثير الفيلسوف نيتشه، النظرية النازية، وأيّد المشروع الهتلري، ورأى فيه خلاص الإنسانية. وكان موقفه هذا شبيها، إلى حد بعيد، بموقف الشاعر عزرا باوند من الفاشية الإيطالية.
وحين غزت القوات الألمانية بلده، يوم 9 أفريل 1940، خرج لاستقبالها مرحّبا، وأيّد الإجراءات، التي اتخذها رئيس الحكومة النرويجية الموالية لهتلر، فيدوم كويسلينغ، الذي عمل على تطهير المجتمع من اليهود والشيوعيين. ولمّا استسلم الجيش الألماني في النرويج، عاد الملك هاكون، وأعاد حكم الإعدام، الذي كان قد ألغي منذ 1876، وحكم على رئيس الحكومة و25 شخصية سياسية بالإعدام.
ألقي القبض على الكاتب كنوت همسن، وجرت محاكمته سنة 1948، وعمره آنذاك 87 سنة، بسبب مواقفه المعادية للديمقراطية، وتعاونه مع العدو، ودعوته للتطهير العرقي. ورغم تمسّك الكاتب بآرائه، ودفاعه عن مواقفه، قرّرت المحكمة العفو عنه بسبب تقدّم سنه.
لهذه الأسباب مجتمعة، غفرت له المحكمة تهمة التعامل مع النازية. وغفر له بلده كلّ خطاياه. لكن بعض دور النشر في الخارج، التي يسيطر عليها اليهود، ضربت عليه حصارا حقيقيا، ولم تترجم أعماله الأساسية إلّا في السنوات الأخيرة.
لكن، يبدو لي، أن تقدمه في السن لم يكن هو السبب الوحيد للعفو. فقد حكمت المحكمة على سياسيين طاعنين في السن في مثل حاله. فالقضاة ميّزوا بين السياسي والأديب. بين السياسي الذي يمارس الفعل المادي، والأديب المفكر، الذي ليس له إلّا أفكاره، يدافع عنها صادقا. وكان من الصعب، في تصوّري، أن يلقى كنوت همسن المصير نفسه، الذي لقيّه السياسيون، الذين تعاملوا مع النازية. وفوق كلّ ذلك، كان كنوت همسن متوّجا بجائزة نوبل، وكان يعتبر مفخرة لبلده.
لهذه الأسباب مجتمعة، غفرت له المحكمة تهمة التعامل مع النازية. وغفر له بلده كلّ خطاياه. لكن بعض دور النشر في الخارج، التي يسيطر عليها اليهود، ضربت عليه حصارا حقيقيا، ولم تترجم أعماله الأساسية إلّا في السنوات الأخيرة.
توفيّ كنوت همسن في سنة 1952، وعمره 93 سنة، وحمل معه إلى قبره الأفكار والقناعات نفسها، وتخلّص من وساوس الشيخوخة والموت المداهم، اللذين عذّباه في خريف عمره.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.