عناوين فرعية
-
على وقع الذكرى العشرون لاجتياح بغداد أفريل 2003-أفريل 2023
-
الغزاة الأمريكان والفرنسيون... قراءة في النسخ المتطابقة
-
الحلقة الأولى
حين هممت قبل فترة بقلب آخر صفحة من كتاب ''سانت أرنو... أو الشرف الضائع'' لفرانسوا ماسبيرو (مترجم عن دار القصبة) وهو بالمناسبة جهد ثقافي متميز أسلوبا، ومنهجيا، ومعرفيا، ترسخّت في ذهني مجددا مقولة ''التاريخ يعيد نفسه'' بنموذج يحمل معطيات جد مطابقة، ويطرح تساؤلات مدهشة بشأن جودة الصورة المكررة أو المستنسخة!
إذ أنه من خلال استقراء ”الشرف الضائع” الذي يتعرض في مواضع متعددة، لواقع الاحتلال الفرنسي للجزائر 1830 في سياق سرد السيرة الشخصية، والعسكرية للماريشال سانت أرنو، نعثر مجددا في تاريخنا المعاصر على مرايا عكسية وصور مماثلة في عراق (2003-2023) وما بعد السنة الأخيرة… على يد الجيش الأمريكي المحتل، يحاكي ما وقع في الجزائر مند قرن ونصف قرن على يد جيش الإمبراطورية الفرنسية .
فكما غزت فرنسا دولة ذات مهابة في البحر المتوسط ”جمهورية الجزائر” كما كانت تسمى، والتي بسطت نفوذها وقوتها على الممرات البحرية، والتجارة الدولية، وأخذت بالفنون العسكرية لاسيما البحرية…
الاحتلال الفرنسي كنظيره الأمريكي، تم التحضير له وطبخ مخططاته الاستعمارية على وقع نظريات ودراسات الباحثين من رجال النخبة، لضرب الحضارة العربية الإسلامية في قلبين نابضين في الشرق والمغرب العربي..
@ طالع أيضا: “أفيون الكرة”.. الهوس بعالم الساحرة محاولة فهم وادراك!
وتميزت في العلاقات الدبلوماسية (نحو 64 معاهدة أبرمتها فرنسا مع الجزائر)، وحينما كانت فرنسا أثناء ثورتها الداخلية الشهيرة، تواجه حرب واستعداء من قبل الأسبان والانجليز والهولنديين في حاجة إلى التأييد الدبلوماسي لثورتها التي قضت على حكم الملوك والإمبراطوريات السائد في أوربا وتحولها إلى جمهورية..
وتحول إلى الإسعاف المادي والمالي بدت تتوسل للجزائر وهذا يبدو على لسان قنصلها العام في الجزائر جان بون سانت أندري عندما سلم خلفه مولتيدو المهام يوم 96 مايو 1798 ”عند وصولي إلى هنا لاستلام مهمتي يوم 03 يوليو 1769 وجدت فرنسا جاثمة هنا على ركبتيها”.
نابليون بونابرت نفسه يقول في رسالة منه إلى الداي مصطفى باشا سنة 1803 ”إذا كنتم تريدون أن تعيشوا معي في وئام فلا تعاملوني هكذا كما لو كنت دولة ضعيفة”..
ومن هذا كانت الجزائر محل أطماع الأوربيين والفرنسيين على الخصوص منذ الملك شارل العاشر.. وجرت في هذا الخصوص محاولات عديدة لغزو الجزائر…
الأمر نفسه أعيد رسمه وتطبيقه في دولة العراق، أواخر حكم صدام بصرف النظر عن سياسة نظام الحكم وسطوته الداخلية…
بلغ العراق رغم حروبه مع الجيران شأنا في العسكرية، والثقافة ومحو الأمية، وبدأ يتطلع للصناعة النووية، وكسر شوكة الدولة الفارسية المتقدمة، ودحر إمارات الخليج المنبطحة..
وهذا ما أقلق الغرب وأرعب إسرائيل، ودفع أمريكا في حربي الخليج الأولى والثانية للتدخل عسكريا لإسقاط نظام البعث، بعد أن أصبح أمن الشرق الأوسط وإسرائيل تحديدا تحت تهديد الجيش العراقي والحديث يطول…
الاحتلال الفرنسي كنظيره الأمريكي، تم التحضير وطبخ مخططاته الاستعمارية على وقع نظريات ودراسات الباحثين من رجال النخبة، لضرب الحضارة العربية الإسلامية في قلبين نابضين في الشرق والمغرب العربي..
وبعيدا عن الدواعي والأسباب والذرائع كما سيأتي تفصيلها، هو احتلال أفكار وصدام حضارات قبل أي شيء.
في فرنسا قبل الاحتلال الذي كان فكرة قديمة تراود الملك شارل العاشر كان المفكر اليكسيس طوكفيل يحرض ويدعو لغزو الجزائر، لأجل هذا ألف كتابه ”عمل خاص بالجزائر” وقام بزيارة استطلاعية لإفريقيا ضمنها خلاصتها في كتابه قائلا (لا أعتقد أنه من مصلحة فرنسا التخلي عن الجزائر، فإن أقدمت على ذالك فسوف يكون تخليها في نظر العالم إعلانا صريحا عن أفول نجمها)..
@ طالع أيضا: الجزائر-فرنسا: حقائق تاريخية وسياسية يجب معرفتها..!
طوكفيل هذا كان صديق الضباط الفرنسيين لاسيما صاحب فكرة المكاتب العربية الجنرال لامورسييار، ولا يشق له غبار في الفكر والثقافة.
ونشير أن كثير من الضباط الذين شاركوا في الحملة العسكرية على الجزائر كانوا في الأصل أدباء، مؤلفين، ويتقنون اللغة العربية…
مثلا النقيب ريشار ضابط مكلف بالمكتب العربي تحت قيادة كافينياك ثم سانت أرنو (قيادة أركان) بالأصنام 1844 كان يجيد العربية كما الفرنسية وهو صاحب كتاب ”الأسرار الغامضة للشعب العربي”.
في سبيل تثبيت أطروحات منظري الاستعمار، كان الهدف من غزو الجزائر محو الخصائص القومية والحضارية للشعب الجزائري والعمل على إدماجه في فرنسا…
يقول بعض المؤرخين الفرنسيين أنفسهم (لقد نجحت فرنسا في القضاء على المراكز الثقافية المزدهرة في الجزائر مند القرنيين الرابع عشر والخامس عشر، وأغلقت نحو ألف مدرسة ابتدائية وثانوية كانت موجودة في الجزائر قبل الغزو لقد هجر معظم الأساتذة الكبار مراكزهم ولقد كان يقدر عدد الطلاب قبل سنة 1830 بمائة وخمسين ألف طالب أو يزيد… لقد حرمت أجيالا من التعليم).
إن أجمل وأرقي عبارة يمكن أن توصف بها أسباب الغزو الفرنسي للجزائر تلك التي قالها الباحث محمد أرزقي فراد في محاضرة له في 25/10/2011 حين قال ما معناه: “إن فرنسا ارتدت قناع الثقافة في الجزائر للسيطرة عليها”.
ويضيف بقوله ”إن الجيش الفرنسي كلف بدراسة المجتمع الجزائري دراسة تاريخية سوسيولوجية انثربولوجية بغية فهمه ومن تم إحكام السيطرة عليه”..
ويعطي نموذجا هو الأخر بالضابط الفرنسي أدولف هانوتو بحيث اجتهد في خدمة البندقية والقلم معا، إلى درجة لا يمكن عزل كتاباته عن المشروع الاستعماري، لاسيما بعد طعمها بقيم العنصرية والهيمنة والاستعلاء..(1)
في بداية تسعينات القرن الماضي بدأ التحرش الإعلامي والعسكري بالعراق، كأعظم قوة في الشرق الأوسط، تهدد المصالح الأمريكية،( بصرف النظر عن نظام الحكم دوما)..
كما فكرت فرنسا قبل احتلالها بتأسيس دولة عربية بقيادة محمد علي والي مصر (كما ورد في مصادر عدة..)، ودعمه لغزو الجزائر بأقل الخسائر تكون خادمة للمصالح، فإن واشنطن كانت تسعى خلال ثماني سنوات من احتلالها، ومن خلال ما خططته من سياسات وممارسات تأسيس دولة عربية في العراق، حامية المصالح الأمريكية في إطار تنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير…
@ طالع أيضا: “الفرنسيون”.. تاريخ من الدّناءة!
في وقت سقطت النظرية الاشتراكية وهوى الاتحاد السوفياتي، جرى في الولايات المتحدة، وضع نظريات وأبحاث من قبل المفكر الأمريكي فوكوياما صاحب نظرية ”نهاية التاريخ” التي يقول بشأنها: ”أن تاريخ البشرية انتهى في صراعه وتطوره إلى الرأسمالية كنظام حتمي وحيد تقوده الولايات المتحدة”.
وأفصح المفكر صموائيل هنثجثون بعدها في كتابه ”صراع الحضارات” عن الفكرة بشكل جلي حين قال بحتمية صدام الامبريالية مع قوى المقاومة في العالم الإسلامي بعد القضاء على الخطر الشيوعي..
كما أخذت وزارة الخارجية والبانتاغون بدراسات أخرى لمعاهد البحوث والاستراتيجيات، وقد أدت نظريات مفكري المحافظين الجدد (العائدون زمن بوش ورامسلفيد كالمجانيين) سندا معنويا قويا في احتلالها العراق.
وكما فكرت فرنسا قبل احتلالها بتأسيس دولة عربية بقيادة محمد علي والي مصر (كما ورد في مصادر عدة..)، ودعمه لغزو الجزائر بأقل الخسائر تكون خادمة للمصالح، فإن واشنطن كانت تسعى خلال ثماني سنوات من احتلالها، ومن خلال ما خططته من سياسات وممارسات تأسيس دولة عربية في العراق، حامية المصالح الأمريكية في إطار تنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير… وعلى طريقة الانجليز بالحجاز يوم أسسوا دولة الشريف حسين لضرب الخلافة العثمانية وحماية مصالحهم…
استكمالا مع رؤية مخططي سياساتهم استهدفوا أيضا أثناء دخولهم بغداد، سرقة ذاكرة التاريخ في عز تصاعد العولمة ووحشية القضاء على خصوصيات وثقافات الأمم..
وذالك بان تركوا مكتبات الجامعات، التي تضم آلاف المخطوطات، لاسيما جامعة الموصل، والمتحف الوطني العراقي عرضة للنهب من قبل عصابات تهريب الآثار التاريخية النادرة التي فقد منها الكثير.
وبعد دخول جنود الاحتلال في أفريل 2003، انتشر قطاع الطرق كالبرق، وعمت الفوضى لحد أصبحت وثائق الدولة تباع على قارعة الطريق في بغداد، (انظر كتاب سقوط بغداد أحمد منصور)..
النزعة ذاتها كانت تحكم فرنسا في القرن التاسع عشر نزعة التسلط والقضاء على هوية الشعب الجزائري، كما أشرنا، في حين لجأت فرنسا يومها إلى مصادرة الأرشيف العثماني ثم الجزائري الخاص بثورة (1954) فيما بعد الذي لا يزال موضع جدل إلى يومنا هذا…
@ تُطالعون في الحلقة الثانية: تطابق في الذرائع، تشابه في السياسات!
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.