من المشاهد المألوفة اليوم في الجزائر أن تصادف و أنت تمشي في الشارع شخصا يطلق ساقيه للريح هاربا من شخص آخر يجري وراءه و تستنتج من تلقاء نفسك أن الأول اختطف من الثاني هاتفه المحمول. أو ترى بغتة فيما أنت تشاهد على التلفاز مباراة في كرة القدم مباراة أخرى أكثر إثارة و لكن للهلع تجري على المدرجات بين المتفرجين تستعمل فيه قبضات اليد و الأسلحة البيضاء و الحجارة و كل ما هو متاح لإسالة الدم و تكسير أسنان الفم و تهشيم العظام. أو تجد نفسك بينما أنت تسوق سيارتك مضطرا إلى خفض سرعتها بل و إيقافها فتسأل السائقين العائدين على أعقابهم عما هنالك فيخبروك بأن الطريق مقفل بعجلات مطاطية محترقة و بأن هناك تراشقا بين قوات مكافحة الشغب و محتجين على سوء توزيع السكنات أو على شيء من هذا القبيل. أو تشاهد فيما أنت تحمل قفة في يدك مجموعات شبانية تتقاتل وسط الأحياء و هي مدججة بالسيوف و السواطير و السكاكين وبكل ما هو قاطع و حاد و مخيف، فترى أنه من الأفضل لك العودة إلى البيت. أو تفتح جريدة للإطلاع على أخبار الرياضة ليصدمك خبر إلقاء شخص ما بنفسه من أعالي جسر أو علق نفسه إلى سقف بيته أو خبر اعتداء تلميذ أو طالب على أستاذه بالسكين أو ما شابه، فتقول متحسرا و قلقا، إن كنت من المتدينين، لا حول و لا قوة إلا بالله ! إلخ... إلخ.
عنف ما بعد الإرهاب
ذلك هو العنف الذي جاء بعد ذلك الذي ضرب الجزائر خلال ما يعرف بالعشرية الدموية. فقد تخلصت الجزائر مما كان يسمى بالإرهاب الذي حصد عشرات الالاف من أرواح الجزائريين لتدخل في عنف من نوع آخر، عنف مرحلة السلم و الاستقرار. و يمكن أن نعرف العنف بأنه استخدام للقوة المادية أو النفسية من أجل الإكراه أو السيطرة أو بغرض إلحاق أضرار أو التسبب في الموت. و بالنسبة للفيلسوف بلاندين كريغل Blandine Krigel فإن العنف ” هو القوة غير السوية التي تمس بالسلامة الجسدية أو النفسية للفرد و التي ترمي إلى إلغاء إنسانية هذا الفرد بغرض السيطرة عليه أو تدميره.” و العنف هو شيء آخر غير الإستخدام المعقول و المشروع و المحدود للقوة ( الوالد الذي يعاقب ابنه مثلا أو القضاء الذي يحكم بالسجن على مجرم أو الشرطة التي تفرق مشاغبين…).
و يمكن القول أن الأمثلة السابقة التي بدأنا بها الموضوع تمثل النماذج الرئيسة لأنواع العنف السائدة حاليا في المجتمع الجزائري. و هذه النماذج الرئيسة يمكن تصنيفها كما يلي:
– العنف الإجرامي.
– العنف الإحتجاجي.
– العنف ضد الذات ( الانتحار).
– عنف سلطة الدولة.
و العنف الإجرامي هو الظاهرة المهيمنة بين مختلف أشكال العنف المتفشي في المجتمع الجزائري. و هو متعدد الأشكال و متراوح الخطورة و منتشر بين الفئات الشبانية بالأساس و بين الذكور أكثر منه بين الإناث. و قد يتخذ الشكل الفردي أو المنظم. و يمكن القول أن هذا العنف و إن كان موجودا حتى في السبعينيات و الثمانينات إلا أنه اتخذ أبعادا لم يسبق لها مثيل في المجتمع الجزائري بعد التحول نحو اقتصاد السوق وما تبعه من تسريح العمال و انتشار البطالة بعد تنازل الدولة عن المؤسسات التي كانت تابعة للقطاع العام و التراجع الكبير نتيجة لذلك في قدرات قطاع الدولة على التشغيل، بينما لم يفض الاتفتاح على القطاع الخاص إلى خلق ديناميكية تنموية حقيقية، بل كثيرا ما كانت و لا تزال إلى اليوم فرص العمل التي يوفرها تتميز باستغلال فاحش للعمال و بهشاشتها وعدم استقرارها وكذا بالحرمان من مختلف الحقوق كالضمان الاجتماعي و التقاعد و التنظيم النقابي، إلخ. و كل ذلك يمكن اعتباره نمطا من أنماط العنف. و قد جاء هذا الوضع نتيجة الخلل الكبير بين العرض و الطلب في مجال سوق العمل، و لكن ساهم فيه أيضا تقاعس الدولة عن فرض احترام القانون. و إذا اخذنا بعين الاعتبار التزايد السكاني المستمر و الهجرة من الريف إلى المدينة و التسرب المدرسي و العجز عن إدماج الآلاف من خريجي الجامعات في سوق العمل و كون الفئة المعنية بهذه الظواهر هي الفئة الشبانية التي تمثل الأغلبية في المجتمع، فهمنا لماذا يشكل كل ذلك الأرضية المناسبة لانتشار للعنف الإجرامي. إذ أن العنف الإجرامي في بعد لا يستهان به ليس سوى نتيجة الإختلالات القائمة في المجتمع، أعني نتيجة العجز عن إدماج الأفراد، الأمر الذي يؤدي إلى نوع من الصراع من أجل الحياة، بحيث يصبح “الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان”، على حد تعبير الفيلسوف هوبز. فالمجرمون ينحدرون من المجتمع و من إفراز المجتمع بشكل معتبر. إن العنف الإجرامي ليس إلا التعبير غير السوي عن مجتمع غير سوي. يقول بهذا الشأن عالم الإجتماع سلافوج زيزاك Slavoj Zizek : ” الحقيقة ليست موجودة خارجنا، بل هي موجودة فينا. الحقيقة ليس لنا أن نبحث عنها أو نطردها بعيدا عنا، فالحقيقة موجودة فينا نحن”، يعني في المجتمع. فالعنف الإجرامي أو غير المشروع هو في بعد كبير منه نتاج الفقر و عدم المساواة في المجتمع. وفي مجتمع يغيب فيه العدل يصبح الأفراد في حل من القيم و من أي التزام أخلاقي إزاء مجتمعهم و يصبحون بمثابة أعداء لهذا المجتمع. فهؤلاء الذين لم يتلقوا شيئا إيجابيا من المجتمع يحسون بأنهم لا يرتبطون به بأي دين أو عقد و لا تفعل فيهم قيمه ومبادئه.
ثقافة العنف
ويبدو العنف الاحتجاجي أكثر وضوحا من حيث علاقته بالاختلالات القائمة في المجتمع، لاسيما بالسياسات العامة و بالممارسات المتبعة من طرف المسؤولين عن تسيير شؤون الحياة العامة. فهذا العنف يأتي كرد فعل واع عما يعتقده مواطنون انحرافا أو إجحافا في حقهم من طرف المسؤولين القائمين على شؤونهم، فيعمدون إلى عنف غير مشروع ( قطع الطرقات العمومية مثلا) من أجل تحقيق حقوق يرونها مهضومة. و الأفراد الذين يعمدون إلى مثل هذا العنف، و هو عنف يتسم بطابعه الظرفي و المؤقت و المتكرر في آن واحد، هم مواطنون عاديون، لا يحملون أي حس إجرامي أو عداء إزاء المجتمع أو ضعف في الوازع الأخلاقي. و الإقدام بشكل أصبح منتظما تقريبا على هذا النوع من العنف يكشف عن دور السلطات العمومية كعامل أساسي في إنتاج و إعادة إنتاج العنف الإحتجاجي و عن انتشار ثقافة العنف بوصفها أسلوب ناجع لإحقاق الحق في المجتمع. و عندما يقتنع الناس بأن القوة هي اللغة الوحيدة التي يصغى إليها في المجتمع فذلك مؤشر على عجز القضاء على أداء دوره كأداة لحل النزاعات داخل المجتمع. و عندما تنتشر ثقافة العنف فهذا يعني أيضا من بين ما يعنيه أن مؤسسات الدولة قائمة على أساس العنف. فثقافة العنف هي نتاج مباشر لغياب دولة القانون. و النتيجة أن الحياة الإجتماعية تصبح محكومة وفق مبدأ العنف و العنف المضاد.
و العنف الاحتجاجي يتخذ دائما الطابع الجماعي الذي يستمد منه قوته و بالتالي تأثيره و فعاليته لتحقيق أهداف المحتجين. لكن ليس كل عنف جماعي هو بالضرورة ذو طابع احتجاجي. فالعنف الذي نشاهده في الملاعب بين المناصرين أو بين مجموعات سكانية من الشبان لا صلة له بنزعة احتجاجية معينة، بل هو تعبير عن انحراف في الحس الاحتجاجي و عن وعي مضلل، مثلما لا ينم بالضرورة عن حس إجرامي. إن هذا النوع من العنف كثيرا ما يكون تنفيسا عن قهر يومي مكبوت و عن تصور غير واع و سلبي عن المجتمع بمختلف مستوياته و عن رؤية للحياة قائمة على مبدأ القوة. إنه رد فعل عن عنف معيش يوميا في البيت المكتظ إلى حد الاختناق و في الحياة العامة حيث يسود قانون الغاب. إنه أيضا نتاج غياب القيادات الاجتماعية و السياسية القدوة في المجتمع. هذا النوع من العنف الجماعي تعبير عن غضب اجتماعي لم يجد له التعبير السياسي نتيجة موت الحياة السياسية في المجتمع، كما يدل على ذلك إخفاق كل المحاولات إلى إحداث ربيع عربي في الجزائر. فبقدر ما تفقد الممارسة السياسية مصداقيتها بقدر ما يزداد و ينتشر هذا النوع من العنف الذي يجهل أصحابه مصدر ما يعانون منه. فيعمد المواطنون إلى استعمال العنف ضد بعضهم البعض أو إلى تخريب المنشآت العمومية صارفين طاقة الغضب المكبوتة المتراكمة داخل أنفسهم، بدل الانتظام فيما بينهم من أجل المطالبة بمجتمع أكثر عدلا.
العنف ضد الذات
الإنتحار هو ما نقصده بالعنف ضد الذات. و قد يعترض البعض على اعتبار الانتحار شكلا من أشكال العنف طالما أنه لا يمارس ضد الغير. و رغم غياب الدراسات العلمية لظاهرة الإنتحار التي استشرت في السنوات الأخيرة في المجتمع الجزائري، إلا أننا نعتبره مع ذلك عنفا، خصوصا و أن مسؤولية المجتمع و الدولة تبدو واضحة في بعض الحالات، كتلك التي يستعمل فيها المنتحر الحرق لوضع حد لحياته. فالطابع الإحتجاجي لهذا النوع من الإنتحار ما عاد يحتاج إلى دليل، إذ أنه ظهر على خلفية انتحار محمد البوعزيزي حرقا مما أشعل الثورة في تونس ثم في البلدان العربية الأخرى. فالفقر و البطالة خاصة، كثيرا ما يحس بها الفرد كعنف، بل كحالة من أقسى حالات العنف التي تمارس ضده. و الانتحار بهذا المعنى ليس غير عنف جذري يمارسه الفرد ضد نفسه للتخلص نهائيا و بطريقة غير سوية من العنف النفسي و المادي الذي فرضه عليه، وإن بطريقة غير مباشرة و عن غير قصد، المجتمع، من خلال قادته الذين يمثلون الدولة. و يكشف الإنتحار عن هشاشة الضحية بقدر ما يكشف عن قساوة المجتمع الذي دفع به إلى تفضيل الموت على الحياة. ومما يدل على ارتباط الانتحار بالوضع العام في المجتمع، أي بالطابع العنيف و القاهر لهذا الوضع، و إن كنا لا نزعم أن الأمر كذلك بالنسبة لجميع حالات الانتحار، أن هذه الظاهرة لم تكن معروفة أو على الأقل لم تكن بهذه الحدة و هذا الانتشار قبل التحول إلى اقتصاد السوق. فاقتصاد السوق قد نشر حالة من عدم الأمان و عدم الإطمئنان في المستقبل لدى الأفراد وأطلق العنان لسباق شرس نحو الثراء و نشر القيم المادية في المجتمع و فرض قانون الأقوى إن لم نقل الغاب الذي حل محل دولة القانون و العدل.
عنف سلطة الدولة
إلى جانب العنف غير المشروع الذي يقع تحت طائلة القانون، هناك العنف المشروع الذي يدخل ضمن تعريف الدولة. فهذا النوع من العنف يمثل أحد مميزات سلطة الدولة ووقف عليها. و حسب تعريف مشهور للمفكر الألماني ماكس فيبر Max Weber، ورد في كتابة ” العالم و السياسي”، (1919) فإنه ” من حق الدولة وحدها احتكار العنف المشروع”. لكن هذا لا يعني أن كل عنف صادر من مؤسسات الدولة هو بالضرورة عنف مشروع. و بهذا الصدد يمكن القول مثلا بأن العنف الذي استخدمته الدولة عام 2001 و الذي أدى إلى مقتل أكثر من مائة متظاهر في أحداث تيزي وزو هو عنف غير مشروع.
بل يمكن القول أن الدولة تمثل أحد المصادر الكبرى المنتجة للعنف غير المشروع و إن كان ذلك ليس بالمعنى المادي. فتزوير الانتخابات وعدم احترام القوانين و التعسف في استخدام السلطة و الممارسات البيروقراطية المجحفة تدخل جميعها في خانة العنف، إلى جانب أنها تساهم في تذكية العنف في المجتمع من خلال الرسائل السلبية و الهدامة التي يرسلها للمواطنين و من خلال إرساء الأرضية التي يتأسس عليها قانون الغلبة و العنف نيابة عن القانون بالمعنى المتعارف عليه. فالعنف غير المشروع في بعد من أبعاده ليس سوى نتاج غير مباشر للعنف المشروع. لذلك يرى ميشال أونفراي Michel Onfray في كتابه Les deux violences بأنه :” إذا توقفت مختلف أعمال العنف المشروع، يمكن أن نتصور انخفاض أعمال العنف غير المشروعة.”
يمكن بالطبع التطرق أيضا إلى أنواع أخرى من العنف المستشري في المجتمع الجزائري كعدم احترام الفضاء العام، كما يظهر ذلك مثلا في تحويل الشوارع إلى ما يشبه المزابل، أو التطرق إلى هذا الموضوع من حيث علاقته بالثقافة السائدة أو بدور العائلة أو بارتباطه أيضا بنمط الحياة الحضرية urbanisme أو إلى مختلف النظريات المتعلقة بظاهرة العنف. فلا شك أن موضوع العنف هو موضوع معقد، لذلك نحن لا نجهل أن كل محور من المحاور التي تطرقنا إليها يستحق لوحده أكثر من دراسة وبحث.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.