إنها لحظة فارقة في تاريخ الشعوب العربية بل في تاريخ الشعوب كافة، لدينا لأول مرة، رئيس أمريكي يجهر علنا، لا في الغرف المغلقة مثلما كان في السابق، بعدائه ليس فقط للإسلام كما جاء في كلمته المشهورة، بل لقوانين حقوق الإنسان التي لطالما تغنت بها الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها.
يعلن دونالد ترامب بملء فمه بأن “الإسلام يكرهنا” ويصدر قوانين واضحة العدائية تمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، بل يذهب أبعد من ذلك في عدائه لحقوق الإنسان ومصادِما لحقوق الحريات حين يقول أنه يوافق على استخدام التعذيب “حتى ولو كان لا ينفع في الإستجوابات”، ويقول بكل فخر ودون تردد أنه يدعم قتل عائلات الإرهابيين، لأن الإرهابيين لا يردعهم القتل فهم يظنون أنهم سيذهبون إلى الجنة لذلك يرى أن على أمريكا توجيه مرمى نيرانها صوب عائلات الإرهابيين حسب قوله.
ينبغي الحذر كل الحذر من الظاهرة الكارثية التي وقع فيها الكثير من الشباب وهي الارتماء في أحضان هذه البرامج والنشاطات التابعة للسفارات الأجنبية، خاصة السفارتين الأمريكية والبريطانية..
هذه نظرة الرئيس الأمريكي المنتخب، وهي رؤية بلا شك، تخضع إليها جميع المؤسسات الأمنية بصفته القائد الأول للجيش والمسؤول الأول على الأجهزة الأمنية الأمريكية، فهو ليس رأيا شخصيا لا يلزم غيره.
لا تدفع السفارات الأجنبية والمنظمات الدولية أي فلس ولا دولار في سبيل الله، هذه القناعة ينبغي أن تكون راسخة واضحة دون أي لُبس في الأذهان عند التعامل مع البرامج المرتبطة بهذه الأجهزة، من برامج تعليمية ودورات تدريبية في الخارج وعشاء فاخر في فنادق الخمس نجوم.
لذلك ينبغي الحذر كل الحذر من الظاهرة الكارثية التي وقع فيها الكثير من الشباب وهي الارتماء في أحضان هذه البرامج والنشاطات التابعة للسفارات الأجنبية، خاصة السفارتين الأمريكية والبريطانية، التي يلاحظ في رأسيهما (سفيرا هاتين الدولتين) استعمال وسائل التواصل الإجتماعي (تويتر وفيسبوك) بطريقة احترافية، بحيث يتغلغلون في أوساط الشباب الجزائري ويناقشونهم ويعرفون همومهم ويبنون معهم جسورا من الثقة والمودة، فتارة يشاركون في مسابقة لأحسن صورة للجزائر وتارة ينظمون مسابقة عن التاريخ البريطاني يفوز الفائز بها على جلسة مع السفير البريطاني وتناول الشاي معه في السفارة البريطانية وغيرها من المبادرة التي تهدف لبناء علاقة ثقة بين ممثلي هذه الدول وبين الشباب.
على الشباب أن يحذر من كل هذه الإستدراجات، ليس لأننا إنعزاليون متقوقعون حول أنفسنا أو لأننا غارقون في نظرية المؤامرة نخاف من الآخر أو نشيطنه دون دليل، بل لأن ما يقوم به سفراء هذه الدول مدروس بعناية محكمة وله أهداف مسطرة قريبة وبعيدة الأجل.
صورة السفيرة الأمريكية أو البريطاني في تويتر على شاطئ البحر في جيجل أو بجاية وهما يمتدحان “جمال الجزائر” ويثنيان على روعة شعبها وكرمه وهما في جلسة شاي على رمال جانت هي استراتيجية لمحو صوة “أمريكا التي قتلت أكثر من مليون عراقي” وإبدالها بصورة “أمريكا التي تحبنا وتعاملنا بلطف وتثني على بلادنا وشواطئها وغاباتها”..
القريب منها هو كسر حاجز الرهبة من هؤلاء السفراء والتوجس الطبيعي الذي ينبغي أن يكون من هذه الدول، خاصة إذا علمنا أن في كل سفارة من هذه السفارات فرعا للمخابرات والأجهزة الأمنية، الهدف القريب هو إعطاء صورة بديلة لهذه البلدان غير تلك التي نراها يوميا في قنابلهم التي تسقط على الشعوب الفقيرة وتدخلاتهم السافرة في مستعمراتهم السابقة ونهبهم لخيرات البلدان النامية وحروبهم الشعواء على شعوبها ودعمهم للإحتلال الإسرائيلي لأراضينا وباقي خطاياهم التي ليس هذا المقال مقاما ذكرها كلها فقد يلزم ذلك مجلدات.
إن صورة السفيرة الأمريكية أو البريطاني في تويتر على شاطئ البحر في جيجل أو بجاية وهما يمتدحان “جمال الجزائر” ويثنيان على روعة شعبها وكرمه وهما في جلسة شاي على رمال جانت هي استراتيجية لمحو صوة “أمريكا التي قتلت أكثر من مليون عراقي” وإبدالها بصورة “أمريكا التي تحبنا وتعاملنا بلطف وتثني على بلادنا وشواطئها وغاباتها”، إنها مجرد رواية بديلة تشتت الإنتباه عما يقع فعلا على أرض الواقع من دمار ونهب واستنزاف للموارد الطبيعية وجميع أشكال النشاطات التي تصب في مصلحة أنظمتهم، وبدون شك عكس مصلحة هذا الشعب الذي يمتدحه السفراء ليلا نهارا.
ينبغي أن يرسخ في وعينا أن السفارات وما يتبعها من هيئات لا ينبغي أن يؤخذ كلامها ومديحها وحلاوة لسانها على محمل الجد فهذا ما تدرّبوا عليه، والسفير الذي يمدح جمال الجزائر سيقول نفس الكلام وربما أكثر على الدولة الجديدة التي سينتقل إليها، فهم كبائع الملابس الذي يُقسم أنك تبدو أجمل وأصغر سنا بعد أن تجرب سلعته.
وأما الهدف بعيد المدى من هذه البرامج هو إنشاء شبكة من العلاقات مع الشباب الفاعل تغرس فيهم أفكارا معينة يُطلب نشرها في المجتمع (ما يسمى بالقيم الأمريكية أو الغربية American/western values ) بحيث تكون هذه السفارات مركز تأثير عليهم ويستعمل هؤلاء الشباب كمنفذين لأجنداتها سواء أدركوا ذلك أم لم يفعلوا، فمهما قوت شوكة الأجنبي وعظُم تأثيره فإنه يحتاج في النهاية إلى جنود في الميدان ينفذون أفكاره ويجسدونها.
وفقط لأنك تتحدث الإنجليزية وترتدي ربطة عنق وتلقي خطابا عن المساواة والتعاون بني البلدين في حفلة خاصة في السفارة الأمريكية لا تعني أنك صرت واحدا منهم، لن تفرق قنابل الدرون التي تصيب 80% مدنيين بينك وبين باقي الشعب الزوالي الذي لم يحظى بهذا “الإمتياز” الذي حظيت به.
كمثال بسيط نرى كيف تعلن السفيرة الأمريكية جاك بولاشينك سنة 2015 بشكل فج دون خجل أن “الولايات المتحدة لا تمانع أن يكون بن فليس رئيسا للجزائر”، وكأن الولايات المتحدة الولايات المتحدة يحق لها إبداء رأيها في من يكون رئيسا ومن لا يفعل..
ولا يخفى على عاقل حجم تدخل هذه الدول الأجنبية في الشأن الداخلي الجزائري بشكل فج ومفضوح عن طريق سفرائه، وكمثال بسيط نرى كيف تعلن السفيرة الأمريكية جاك بولاشينك سنة 2015 بشكل فج دون خجل أن “الولايات المتحدة لا تمانع أن يكون بن فليس رئيسا للجزائر”، وكأن الولايات المتحدة الولايات المتحدة يحق لها إبداء رأيها في من يكون رئيسا ومن لا يفعل، وكأن “الولايات المتحدة هي مصدر السلطات” لا الشعب، كما ينص الدستور، وكأن السفير الجزائري في واشنطن يحق له إبداء رأيه حول الرئيس الأمريكي أو أن يفاضل بين ترامب وكلينتون.
وما يحزن القلب هو أن موقف هؤلاء الشباب لم يتغيّر من السياسات الأمريكية مع صعود ترامب وتياره اليميني المتطرف، ففي حين أن العالم كله يراجع علاقاته مع أمريكا ويعلن بكل وضوح أن العلاقات لن تبقى ودية إن باشر ترامب سياساته العنصرية المتطرفة، كحزب المستشارة الألمانية الذي قرر حذف أمريكا من قائمة “الدول الصديقة”، نجد أن الكثير من الشباب لازال يتردد على السفارة الأمريكية ويشارك في نشاطاتها و”يشيّت” للسفيرة الأمريكية في وسائل التواصل الإجتماعي بالمجان.
الكلام ينطبق على الكهول كما ينطبق على الشباب، بل هو على الكهول أشد، فكم رأينا من رئيس حزب (بن فليس ومقري كمثال) يلتقي السفيرة الأمريكية أو يحج كل فترة وأخرى إلى السفارة الفرنسية لعله يحظى بشيء من النفوذ عند “الأسياد” فترتفع أسهمه ويستقوي بهم على غيره، بدل أن يلجأ إلى مصدر السلطات الأول وهو الشعب.
إن الدبلوماسية لا تعني المودة والحب والقرب، بل هي مجرد وسيلة لتسوية الخلافات بعيدا عن العنف، أما الشعوب فينبغي أن تظل يقظة فطنة ولا تنساق وراء المظاهر والموائد الفاخرة والرحلات السياحية..
إننا لا ندعو أبدا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع القوى الكبرى في هذا المقال، لكن ما يجوز للحكومات فعله بسبب ظروف معينة لا يعني أن على الشعوب وممثلي المجتمع المدني أن تحذو حذوه، فإن كانت للجزائر علاقات دبلوماسية مع كوريا الشمالية، فهل هذا يعني أن علينا جميعا أن نمتدح قائدهم ونشيد به ونشكره على “الإزدهار والديموقراطية العريقة” التي يعيش فيها شعبه؟ نفس الأمر ينطبق على علاقة الشعوب بالدول الإستعمارية.
إن الدبلوماسية لا تعني المودة والحب والقرب، بل هي مجرد وسيلة لتسوية الخلافات بعيدا عن العنف، أما الشعوب فينبغي أن تظل يقظة فطنة ولا تنساق وراء المظاهر والموائد الفاخرة والرحلات السياحية التي تدفع ثمنها السفارات، وإن اضطرتك الظروف يوما لشرب الخمر فلا يجوز لك أن تنشد فيها شعرا.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.
تعليق 6434
صدقت يا سيادة الكاتب المحترم في كل ما جاء في مقالك الرائع. وخلاصة الخلاصة، تتمثل في قول الشاعر:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة = = = فلا تظنن أن الليث يبتسم.
والسلام على كل ذي لب وعقل وضمير حيّ.
تعليق 6802
– السفارات الأجنبية والمنظمات الدولية لا تدفع أي فلس ولا دولار في سبيل الله. أظنه العنوان البديل لهذا المقال .
– حتى ون إن جاء تعليقي متأخرا لسنة كاملة ، الأهم أنني هنا ، أشكر الكاتب على ما جادت به قريحته و بحثه ليضع القارئ خاصة الشاب في الصورة حول التجسس و العمالة الدبلوماسية و المقننة في نفس الوقت . دمتم