لا يخفى على أحد أن تشكّل الدول الوطنية في المجتمعات العربية كان نتيجة للمؤامرات السرية التي أبرمتها الدول المستعمِرة مع القادة العرب الذين خانوا قضاياهم وباعوا ذممهم للمستعمر مع الوقت تحولت حكومات الدول العربية إلى سفارات للدول المستعمِرة، وتحول القادة العرب إلى مرتزقة توجههم مخابرات الدول الاستعمارية. تنطبق أحداث هذه المأساة على الجزائر كذلك.
فالدولة الوطنية التي تشكّلت بعد الاستقلال والتي كانت تبشر بمستقبل أفضل، لم تكن في الحقيقة سوى امتداد للاستعمار الفرنسي الذي آثر أن يغير من إستراتجية الهيمنة وفضل أن يحكم عن طريق قادة جزائريين. ربما اعتقد القادة الذين حكموا الجزائر بعد الاستقلال أن مجرد إنشاء مؤسسات شبيهة بتلك التي أنشأتها الدول الغربية الحديثة، كفيل بأن يجعل منا دولة حديثة.
وربما كانوا صادقين في نواياهم في تأسيس دولة عظيمة وحديثة تكفل لشعبها العيش الكريم وتحقق له الرفاه، لكن للأسف ليست النوايا هي من تصنع المعجزات ولا الخطابات هي من تشيِّد الحضارات، فقد تبنوا خطابات شعبوية ضخّمت آنا الشعب لدرجة جعلته يعتقد في أوهام لا تمت بصله لا لتاريخه ولا لواقعه المرير. فمصطلحات مثل، جزائر الأبطال، بلد العظماء، بلد التضحيات، الشعب الجزائري البطل، جزائر العزة والكرامة، جزائر المعجزات، الشعب الأبي، الشعب الشجاع… كانت بمثابة المخدر الذي يسكّن آلام الشعب الجائع والمقهور والمظلوم.
لقد خلقوا دولة شبح أوهموا أنفسهم وأوهموا الشعب أنها قادرة على أن تلبي جميع حاجياته وتكون في مستوى تطلعاته، غير أنها كانت مجرد دولة أشخاص لا دولة مؤسسات، تخدم مصالح الأقلية الحاكمة، لكنهم من جهة أخرى أفلحوا في إيهام الشعب، الذي لم يكن يتجاوز بعد العقل الوجداني والعاطفي، بالخطاب الثوري المتجاوز.
قامت الدولة بالفعل بإنشاء مؤسسات وهيئات حكومية تحت شعار الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، لكن في الحقيقة لم تكن لا جمهورية ولا ديمقراطية ولا شعبية، بل كانت سلطة غير شرعية تمارس حكمها من خلال نظام ديكتاتوري بوليسي أرهب الشعب وجوعه وأفقره. فأساليب وآليات الحكم في الأنظمة الشمولية تتمثل عموما في إنشاء مؤسسات وهمية فارغة من محتواها، لا تمارس وظائفها القانونية إلا على الجماهير الشعبية الفقيرة والكادحة.
يتفق أغلب المؤرخين والمضطلعين على تاريخ الجزائر الثوري، على أن اتفاقيات إيفيان كانت بمثابة الحبل السُري الذي لم ينقطع بعد الولادة، وظل حلقة وصل بين فرنسا وممثليها في الجزائر لاستدامة الهيمنة والاستعمار عن بعد. وهذا ما تؤكده تدخلات فرنسا في الشؤون الداخلية للجزائر والتي تصل في بعض الأحيان إلى درجة تعيين وإقصاء الوزراء..
تمثلت هذه المؤسسات في كل السلطات، التشريعية، التنفيذية والقضائية، وحتى في السلطة الرابعة. وظفّ النظام كل هذه السلطات لحماية مصالحه الشخصية من خلال منح هذه المؤسسات جزء من الصلاحيات والامتيازات تجعلهم يتوهمون أنهم حقا مؤسسات دولة لها كامل الصلاحيات. ومع الوقت شكّلت هذه الهيئات درعا وحصنا يحمي السلطة من الشعب.
يتفق أغلب المؤرخين والمضطلعين على تاريخ الجزائر الثوري، على أن اتفاقيات إيفيان كانت بمثابة الحبل السُري الذي لم ينقطع بعد الولادة، وظل حلقة وصل بين فرنسا وممثليها في الجزائر لاستدامة الهيمنة والاستعمار عن بعد. وهذا ما تؤكده تدخلات فرنسا في الشؤون الداخلية للجزائر والتي تصل في بعض الأحيان إلى درجة تعيين وإقصاء الوزراء.
الدولة في معناها الصحيح هي مجموعة من المؤسسات كل منها تمتلك سلطة رمزية تستخدمها بغرض التسيير العقلاني لثروات البلاد، ثم توزيع هذه الثروات على الأفراد بشكل عادل وفق مبدأ الفعالية والاستحقاق. أما الدولة عندنا فهي مجموعة من المؤسسات التي تمتلك سلط رمزية تستخدمها بغرض الهيمنة واستغلال ثروات البلاد ثم تقسيم الجزء الأكبر منها على الأقلية المهيمِنة، وتوزيع المتبقي على الشعب المهيمن عليه.
إن المفعول السحري للهيمنة التسلطية لدولة العصابة ليس ناجما من التحكم في مصدر الثروات، ولا حتى في خضوع الفئات الانتهازية التي تطمع في الحصول على نصيب من هذه الثروات، بل في استذماج الأفراد لمفهوم السلطة الرمزية الناجمة عن منطق علاقات القوة الذي يحكم بنية هذه الدولة، وممارساتهم (الأفراد) اللاشعورية التي تخضع لمنطق الهيمنة.
منطق الهيمنة هذا سيتحول مع الوقت إلى أشكال مٌمئسسة، مموضعة ومشروعة تفرز هيرارشية اجتماعية تتكون أساسا من طبقتين، طبقة مهيمِنة وطبقة مهيمن عليها، تنعكس في المخيال الاجتماعي للطبقتين بمفهوم مشوه يستتر تحت مصطلح الدولة والشعب.
حين يتشرب الأفراد منطق السلطة الرمزية وما تمارسه من هيمنة بتواطؤ من الفئة المهيمن عليها، وحين يستذمج المواطنون قواعد اللعبة وما تفرزه من آليات وقيم تعمل على شرعنة السلطة وديمومة علاقات الهيمنة، حينها لن يكون من المجدي تغيير الأشخاص، أي استبدال الفئة المهيمِنه بفئة أخرى، ما دامت البنية قائمة ومحافظة على آليات عملها.
زال مفعول السحر، وأصبح بصر الشعب الجزائري اليوم حديد. وها هو الآن يريد أن يحول الدولة الشبح إلى حقيقة، وينتفض في وجه النظام انتفاضة العبد الشجاع الذي كانت آليات القهر والهيمنة تقيد شجاعته، ويهزّ بصراخه المرعب أركان النظام الفاسد، ويلقن للعالم درسا في الثورة البيضاء..
وها نحن نتأكد الآن بعد هذه الانتفاضات الشعبية التي هزت البلاد وأرعبت السلطة، من حقيقة هذه الدولة الشبح التي لا زال الجزائريون يخمنون ويتجادلون ويبحثون عن حكامها الحقيقيون. لم يعد يخفى على أحد أن الجزائر، ومنذ الاستقلال، محكومة من قبل العسكر، وأن هؤلاء هم يتحكمون في زمام الأمور ويوجهون السياسيين إلى الوجهة التي يريدون. لكن يبقى السؤال المطروح عن حقيقة هذه العصابة التي استطاعت أن تحكم شعبا لأكثر من خمسة عقود دون أن تسقط أقنعتها وينكشف وجهها الحقيقي.
زال مفعول السحر، وأصبح بصر الشعب الجزائري اليوم حديد. وها هو الآن يريد أن يحول الدولة الشبح إلى حقيقة، وينتفض في وجه النظام انتفاضة العبد الشجاع الذي كانت آليات القهر والهيمنة تقيد شجاعته، ويهزّ بصراخه المرعب أركان النظام الفاسد، ويلقن للعالم درسا في الثورة البيضاء.
آن الأوان مع هذه الهبّة الشعبية والعزم الجماهيري، لكي يأخذ الشعب، من ما سيفرزه من نخب وكفاءات، بزمام الأمور لتصبح الجزائر جمهورية ديمقراطية شعبية بالمعنى الحقيقي والفعلي للكلمات.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.