لم أر في حياتي قط أحزابا سياسية كتلك التي عندنا في الجزائر، عٌبّاد ليس لهم شغل ولا عمل إلا التبرك ببركات الكاهن الأعظم، ليسوا أكثر من أعضاء مشلولة ومعطوبة في جسم المجتمع، بل أعضاء فاسدة تنتشر عدواها فتعطل فاعلية الأعضاء السليمة بعفنها الذي لا يٌقاوم.
رؤساء أحزاب لا شغل لهم إلا تقديس الرئيس ومنجزاته، وتمجيد سياسته وعٌهداته، أحزاب لا تستفيق من سباتها الشتوي إلى لتٌصفق وتٌهلل وتٌطالب بتمديد العهدات، أحزاب لم تٌخلق إلا لتعلن ولاءها المطلق للرئيس والحزب الحاكم، وأن تشهد ألا شخصا أحق بالرئاسة إلا هو، حتى وهو على فراش الموت..
رؤساء أحزاب لا شغل لهم إلا تقديس الرئيس ومنجزاته، وتمجيد سياسته وعٌهداته، أحزاب لا تستفيق من سباتها الشتوي إلى لتٌصفق وتٌهلل وتٌطالب بتمديد العهدات، أحزاب لم تٌخلق إلا لتعلن ولاءها المطلق للرئيس والحزب الحاكم، وأن تشهد ألا شخصا أحق بالرئاسة إلا هو، حتى وهو على فراش الموت، أحزاب تمّت صناعتها في مخابر الدولة، وتدجينها وفقا لثقافة تقديس أولياء الله والتبرك بأضرحتهم، أحزاب يقودها أشخاص سٌذج يفتقدون لرؤى سياسية عميقة، أشخاص تمّت برمجتهم فقط على التأييد المطلق للنظام الحاكم دون قيد أو شرط، قادة تم توظيفهم لتوجيه التهم لكل من يخالف النظام ووصفه بالردّة السياسية والخيانة الوطنية.
تلكم هي الدروشة السياسية التي أصبحت نموذجا يٌحتذى لكل من أراد أن يمتهن السياسة أو يٌنشىء حزبا في الجزائر، ولا يمكن لأي حزب أن يحصل على الاعتماد لممارسة نشاطه إلا إذا توفرت فيه شروط النموذج المطلوب وهي : إعلانه للولاء المطلق للرئيس وللنظام الحاكم، السذاجة السياسية، تبنيه للخطاب السياسي الرنان الذي لا يحمل إلا الوعود الكاذبة والجوفاء، القدرة على تغييب العقل وتعطيله، قابلية الاعتقاد بالخرافة وتصديق الأساطير السياسية، تقديس الرئيس ورفعه لمكانة الولي الصالح، تقديس انجازات الرئيس وتحويها لأضرحة تٌعبد ويٌتبرك بكراماتها، قابلية التعامل مع صورة الرئيس مكان شخصه أثناء غيابه، القدرة على نكران الذات والفناء الكلي في برنامج فخامته.
الدروشة السياسية هي أسلوب متبع في جميع الدول العربية، فأينما وجدت الأنظمة الشمولية والديكتاتورية وجدت هذه الظاهرة، وها هي مصر بلد المثقفين والتنويريين تدعو على لسان الدكتور يوسف زيدان إلى دروشة سياسية تحت غطاء صوفي فلسفي، محاولة منها للوقوف في وجه الإسلام السياسي، لكن هيهات أن تكون السذاجة السياسية بديلا حقيقيا للديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
في مقابل هذه الظاهرة نجد السواد الأعظم من الناس وهي الطبقة الأشد معاناة وفقرا وتهميشا، غارقة في تفاهاتها اليومية، مفتونة بكرة القدم أكثر من انشغالها بظروفها الاجتماعية القاسية، تتابع مسلسل هؤلاء المهرجين على موقع التواصل الاجتماعي، فتعبر عن سخطها تارة بأساليبها السوقية المعتادة، أو تتعامل معها باللامبالاة تارة أخرى لأنه أصبح سيان لديها أن هرّج ولد عباس، زوخ أو سعداني، فإن الوضع باق على حاله والمعاناة مستمرة.
هذه النخب المثقفة والجامعية التي تتلقى رواتبها مقابل الصمت، فتسكت عن الحقوق التي تٌغتصب، وعن المهازل السياسية التي ترتكب، وعلى الدروشة والتهريج والعفن في المجال السياسي، هي في الحقيقة شياطين خرس..
إلا أن الأمر الذي لا أكاد أستسيغه هو صمت الطبقة المثقفة، الصفوة الجامعية التي أصبح المشهد السياسي لا يحرك فيها ساكنا، تٌقلب الدنيا رأسا على عقب، وتثور الطبقات الشعبية في المجتمع سخطا على الأوضاع المزرية، وتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض، إلا النخبة الجامعية، باستثناء بعض الصيحات المنفردة، التي لا نرى لها دخانا في هذه الساحات الثائرة، النٌخب المثقفة والأكاديمية هي من قادت الثورات التغيرية في تاريخ الإنسانية، فهي من المفروض من تمتلك العقل المتحرر والمحلل والمنتقد، هي الصفوة التنويرية التي لا تنزلق في مغبّات التحيٌّزات الحزبية أو الإثنية أو الجهوية، هي الفئة التي تمثل العقل الواعي للمجتمع.
النخب المثقفة هي من تقف في وجه كل أنواع المصادرات، هي من تتصدّى للقمع الفكري والسياسي والديني، هي من تصرخ في وجه الدكتاتوريات السياسية والأنظمة الشمولية، هي من تقاوم العفن والتهريج السياسيين، الصفوة الجامعية هي من تساهم في كشف وتعرية آليات الحجب والخداع والإقصاء والاعتباط والمصادرة، هي من تحارب ثقافة التأله والتوحش البشري، هي من تسدّ الأبواب أمام الهدر المادي والبشري والاجتماعي، هي من تتصدّى للضعف الثقافي والوهن الاقتصادي والتخلف الحضاري، النخب الجامعية هي من تنقذ المجتمع من فخّ الهوية وداء الاصطفاء والتعصب وتنأى به عن الوقوع في هو الخلافات الإثنية والقبلية.
للأسف، هذه النخب الأكاديمية أصبحت لا تحرك ساكنا ولا تنفعل سلبا ولا إيجابا أمام هذا الثوران الاجتماعي وهذا التهريج السياسي، تمارس لعبة الصمت، تتخفى وراء انشغالاتها الدراسية التي لا تمارس من خلالها إلا إعادة إنتاج الغباء والحماقة الاجتماعيين.
هذه النخب المثقفة والجامعية التي تتلقى رواتبها مقابل الصمت، فتسكت عن الحقوق التي تٌغتصب، وعن المهازل السياسية التي ترتكب، وعلى الدروشة والتهريج والعفن في المجال السياسي، هي في الحقيقة شياطين خرس.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.