على وقــع الذكرى العشرون لاجتياح بغداد افريل 2003-افريل 2023
الغزاة الأمريكان والفرنسيين… قراءة في النسخ المتطابقة
الحلقة الثالثة 3/6 : بقلم – ربيـع بشـاني كاتب
نماذج الغزاة… أو النسخ المطابقة
بعيدا عن الخلفيات نحاول استجلاء، والبحث في محتوى الصور والنماذج والآليات المتطابقة ،لأكبر وأضخم احتلالين عرفهما التاريخ البشري في العصر الحديث، استهدفا دولتين عربيتين، تحتلان في العصر الحديث موقع استراتيجي، وثروة اقتصادية هائلة، ومخزون روحي لا ينضب…هذا من طرف اكبر إمبراطوريتين أيضا، في إطار تحقيق مصالح، وتطبيق استراتيجيات …ومن جهة إرهاب الخصوم الطبيعيين والانتقام منهم بطريقة خاصة( فرنسا وانجلترا – أمريكا وروسيا )…ويمكن تسجيل وصف الضخامة والتأثير ،هذا لما أحدثه الاحتلالان في المنطقتين الشرق الأوسط، في القرن الواحد والعشرين وشمال افرقيا منتصف القرن التاسع عشر، من رجة قوية غيرت خريطة الجغرافيا السياسية ،وأحدثت شرخ في التركيبة الاجتماعية، وقلبت كفة التوازن العسكري، كذالك ما أ حدثه الغزو من استهداف المفاهيم وإعطائها دلالات جديدة ،( نشر الحرية الديمقراطية ،القضاء على الاستبداد، وتغيير في ذهنيات الشعوب ونمط تفكيرها بعد سنوات …و محاولة القضاء على روح المقاومة، وتحطيم حضارة، وتكوين قوة ثالثة ..) .
كذالك يبرز عنصر الضخامة والترويع من جهة الوحشية، التي استخدمها الغزاة والتي تمثلت كما سنرى في المذابح المروعة لقرى بكاملها في الجزائر، وقصف جهنمي بالطيران الحديث وبأ فتك الأسلحة كما حدث في العراق، وبإطلالة على أدوات ومخلفات وسياسات الاستعمار الفرنسي على الأقل من خلال ما كتبه مؤرخ فرنسي عن سانت أرنو … وما تسببت فيه من أثار وخيمة تستمر إلى اليوم على النسيج الاجتماعي، والنفسي، والبشري ( فئة مرتبطة روحيا بفرنسا إلى اليوم )، وسياسي ( سلطة تأتمر وتخدم مصالح فرنسا الاقتصادية والسياسية )، فإننا يمكن القول أن ما رأيناه بشكل مشابه اليوم في العراق ستبقى أثاره المدمرة أكثر من مئة سنة عل شعب بلاد الرافدين، وأحيانا أمام هول المأساة ،وحشية الغزاة يمكن التعبير بالقول، قد تمحى المخلفات النووية على الأرض، في حين ستبقى آثار الغزو النفسية والبشرية قائمة إلى مئات السنين ..كالذي نعيشه في الجزائر اليوم من طرف أقلية تغريبية تملك أدوات الحكم ( السلطة، المال ،الإعلام ) وتديرها مند عقود بشكل لا يطاوعها احد .
حين تقرأ وتجري مقاربات عن الصور المثيرة والمدهشة التي خطها سانت أرنو ،ومعلمه بيجو، وفالي ولامورسيار ومن بعده مجرمون آخرون، في أرض الجزائر وجبالها وصحرائها ،وتترى لنا صور ما يحدث في العراق مند سنة 2003، تتملكنا الدهشة، ونعجز عن إيجاد وجه من وجوه الاختلاف، فكل الخطوط متقاطعة بدقة، ومتوازية بإبعاد واحدة ،وكل الزوايا متقابلة، وجل الدوائر متداخلة بشكل منظم ميزتها الوحيدة التناسق في الإجرام الوحشية المفردة، كذالك هنا كولن باول، ورامسفيلد، وبتريوس وآخرون ينتظرون دورهم للتوقيع المزيد من الفضائح، ولنا أن نتسأل بجدية بعد أن طلب البانتغوان حين غرقت القوات الأمريكية في العراق وهزمت في الفلوجة (2004) الاطلاع على فـلم ( معركة الجزائر) لنا أن نتسائل إذ ما جرى هناك تبادل واطلاع وزارة الدفاع الأمريكية على أرشيف غزو الجزائر من نظيرتها الفرنسية ؟
قادة الهزيمة بين الأمس واليوم
في سياق بحثنا عن عناصر المطابقة في الحالة الجزائرية، ومقارنتها بتركيبة ومستوى القيادة لدى نظيرتها العراقية، بعد نحو قرن ونصف القرن بين الحدثين العظيمين اللذان هزا الأمة وضربها أقسى ضربة في هويتها ودينها، نجد أوجه تشابه كثيرة يقتضي الحال التركيز على الظاهر والبارز منها نجد صفات تكاد تكون مطابقة للساسة والقادة الميدانيين الذين أوكلت لهم مهام الدفاع عن البلاد( أمية، ضعف القيادة ….
في النموذج الأول كانت القيادة بيد الأغا إبراهيم صهر الداي حسين، وكان إبراهيم هذا عاجزا عن أداء مهمته، فهو لم يكتف بعدم القيام بأية استعدادات لصد العدو، بل انه عارض اقتراحات زملائه أمثال الحاج احمد باي قسنطينة، بعدم تعريض الجيش كله إلى لقاء واحد مع العدو…كان إبراهيم يقول لهم دائما ”انه الوحيد الذي كان يعرف مناورات وتكتيك العدو الحربي ”!.
كانت لدى إبراهيم خطة الفرنسيين في الهجوم، ومكان نزول قواتهم وعدد جنودهم ومدافعهم، ومع ذالك يقول المؤرخون .. لم يستعد لأي شيء وكان يدعي أن الجزائريين سيرغمون الفرنسيين على الفرار منذ نزولهم الأرض، ولكن لم يصدر أية أوامر لهؤلاء الجزائريين لكي يأتوا من بواديهم لمواجهة العدو بسيدي فرج، فكان كل جيشه كما يقول حمدان خوجة من أهالي متيجة الذين لا يعرفون سوى بيع الحليب أما أهالي جرجرة فقد تخلوا عن إبراهيم وذهبوا لحالهم لأنه لم يعطيهم لا ذخيرة ولا مئونة .
وهناك عدد من الأخطاء الإستراتيجية التي ذكرها عدد من المؤرخين التي تؤكد على نقص الخبرة والحنكة لدى القائد العام إبراهيم والداي حسين، رغم الإمكانيات البشرية والمادية التي بحوزتهم، وزمام المبادرة لديهم… ويذكر المؤرخون أن الأغا يحي القائد الأسبق الذي عزله الداي حسين قبل الحرب والذي كان محبوبا من الجيش والعرب، يملك موهبة وطموح يمكنه من وقف ودحر العدو ..أما تعيين القائد إبراهيم فقد كان خطئا فادحا ارتكبه حسين باشا ….
وعند الهزيمة في اسطوالي في 19جويلية 1830 هرب ابراهيم من الميدان واختفى في دار ريفية مع بعض خدمه، وهو محطم المعنويات ،منكسر القلب (5)
في الصورة الثانية يمكننا أن نأخد بشهادة الصحفي احمد منصور يقول في ” قصة سقوط بغداد ” مثلي مثل كثير من المتابعين للأحداث فوجئت بسقوط السريع للعاصمة العراقية بغداد بعد ثلاثة أسابيع من المقاومة ..بعد سقوط بغداد حاولت أن افهم ما حدث من خلال عدة مصادر …إذ أن القائد العام للقوات المسلحة العراقية الرسمية صدام حسين ليس لديه خبرة عسكرية محترفة، فهو لم يقبل في الكلية الحربية ورفض طلبه مرتين، وكانت عقدته حينما كان نائبا للرئيس أحمد حسن البكر ،الذي كان عسكريا محترفا بينما كان نائبه صدام دخيل على العمل العسكري … وكان تاريخه العسكري مليئا بالفشل….( حرب ايران، غزو الكويت 91) التي وضعت مقدرات العراق رهن الحصار ..
ولذالك فان صدام وضع بدوره مجموعة من الفاشلين وشبه الأميين على رأس المؤسسة العسكرية ،فقد عين صهره حسين كامل وزيرا على اخطر ثلاثة وزارات في الدولة، هي وزارة الدفاع والتصنيع الحربي والصناعة، يضيف احمد منصور في الوقت الذي كان فيه حسين كامل غير متعلم وشبه أمي وكل مؤهلاته انه من تكريت ( مسقط رأس صدام ) وكذالك حسن المجيد الذي وضع على قائد المنطقة العسكرية الجنوبية في العراق، لم يكن سوى ضابط صف ولم يحصل على شهادة عسكرية لكن منحه رتبة فريق وهو الذي لم يتحصل على الابتدائية العسكرية …
أما قادة الفيالق والمناطق العسكرية الأخرى أثناء الحرب مثل عزة إبراهيم، طه ياسين رمضان، فيقال أن الأول كان بائع ثلج ،قبل ران يترقى في درجات الحزب ويصل إلى نائب رئيس الجمهورية ،ثم احد القادة العسكريين الست المسئولين عن الدفاع على العراق …
أما الثاني فكان ضابط صف في الجيش قبل ثورة 68 وتمت ترقيتة بسبب ولائه الشخصي لصدام حيث أصبح نائبا بدوره للرئيس، يوجه كبار الضباط، يقول الكاتب ” ولنا أن نتخيل بعض قادة الفرق العسكرية يدركون وهم يخوضون المعركة، أن الذي يوجههم ويعطيهم الأوامر شخص أمي لا يعرف القراءة والكتابة أو كان حارسا للرئيس أو بائع ثلج أو ضابط صف على اعلي تقدير …من الواضح أن الولاء الشخصي والأمية والجهل كانت هي المؤهلات الأساسية التي كان صدام يجعلها معايير تضع الناس في صفوف الجيش يدافع عن دولة مثل العراق .” (6)
وبعد سقوط بغداد نجد أن اغلب قيادات الجيش إما مقتول، أو معتقل، أو مستسلم هائم على وجهه في الشوارع …( حالة صدام، علي حسن المجيد، وزير الدفاع، طه ياسين… ) فإحدى أهم أسباب سقوط بغداد مرده هؤلاء القادة وضعف الاستراتيجيات المعتمدة إن وجدت رغم الإمكانيات المادية والبشرية التي كانت بحوزة الجيش العراقي الذي كان قادرا بشهادة كثير من الخبراء قدموا رؤيتهم واستنتاجاتهم قبل الحرب على تحقيق توازن ووقف الغزو الأمريكي، لكن صدام حسين وشلته المرتشية قدمت قرارات ارتجالية وخطط عشوائية، في حين راهنت سنوات طويلة على تهميش الرؤية المخالفة لرؤيتهم داخل الجيش، وكان صاحب الرأي ”العسكري والسياسي ” المخالف دائما لدى صدام حسين وقيادة البعث إما مفقود أو مقتول …
على وقــع الذكرى العشرون لاجتياح بغداد افريل 2003-افريل 2023
الغزاة الأمريكان والفرنسيين… قراءة في النسخ المتطابقة
الحلقة الرابعة 4/6 : بقلم – ربيـع بشـاني كاتب
الجندي المحتل، لص تافه، وقاتل الأبرياء.
حين حل الجنرال كلوزيل عام 1831 كقائد عام خلفا لبورمون أمر بطرد 15 ألف انكشاري أغلبهم جنود وأمر بتكديسهم في سفن الجلاء، وتم احتلال المساجد والأملاك والمؤسسات الخيرية وتحويلها إلى ثكنات، ينقل الأستاذ أبو القاسم سعد الله عن أحد المؤرخين الفرنسيين قوله ” ليس هناك مدينة في العالم شهدت عند احتلالها الفوضى التي شهدتها مدينة الجزائر، فقد اختفت الحلق والسلاسل والصوارى والأخشاب والسنانيير من الميناء، وخلفت أبواب المحلات العامة، ونهبت الأموال والأثاث والحلي من المنازل، وكثر الاعتداء على الأشخاص والأعراض، ولم يعد القائد العام بورمون الحاكم الفعلي فقد ترك الحبل على الغارب…ولو أن الفرنسيين ابقوا على وظائف الإدارة العثمانية لظلت الأمور تسير على الأقل في الحد الأدنى ولكنهم الغوا وظائف الخزناجي، وقائد الشرطة، ومراقبي الأسواق …لقد كانوا يهدفون إلى إدارة جديدة لكنها كانت إدارة مرتجلة أدت إلى كثير من التعقيدات )(7)
على خطى كلوزيل سار قادة الغزاة الأمريكان، إذ يمكننا أن نستحضر ”عراق بريمر” الذي يفيض ” فوضى خلاقة ” فحين انتشرت قوات الاحتلال عم النهب والسلب في شوارع بغداد، بعد أن أطلق سراح المساجين اللصوص، وبما حمله الاحتلال معه من أوغاد، فتم إضرام النار في المنشآت والمؤسسات ولم تسلم إلا وزارة النفط التي منحت حراسة مشددة ..وامتد الخراب في كل شبر من أرض العراق وشاهدنا جزءا منه في عصر تقنيات ” البث المباشر” … في الأشهر الأولى لاحتلال أحال الحاكم العام بريمر نحو 500 ألف عامل حكومي عراقي معظمهم على البطالة، بعد أن قرر حل الجيش العراقي بينهم أطباء ومديرون وناشرون وطابعون، وبدأت يومها في الحين عملية تصفية الجهاز الإداري لسلطة العراق ،وتم حل عدد من الوزارات وإعادة تشكيلها من الصفر برؤى واليات وبرامج جديدة، وأحيلت ألاف العائلات إلى التشرد والضياع، ثم عمد إلى خصخصة نحو 200 شركة مملوكة للدولة وتدير اقتصاد العراق، وتنتج كل شيء من الاسمنت إلى الورق إلى الصابون إلى الغسالات الآلية ..فيما وصف ذالك القرار على انه أضخم بيع ضمن عملية تصفية دولة مند انهيار الاتحاد السفياتي (8)
حين يتم تحطيم قدرات أمة العسكرية والاقتصادية، يفتح المجال للممارسات الوحشية ضد البشر على أيدي المرتزقة، شذاد الأفاق، ويشرع في القتل والتنكيل فسانت أرنو من ملازم أول إلى ماريشال، هو نموذج للجندي والضابط الفظ، الصلف ،الغليظ القلب، المستهتر والمبادئ الأخلاقية، (9) وهذا ينطبق على الضابط والجندي الأمريكي في العراق الذي نرى تصرفاته على الفضائيات في العصر المتقدم ( يقتل، يدمر، يداهم البيوت، يغتصب، يعذب ( سجن أبو غريب ….غوانتانامو) وهذا تبعا لنظريات وتوجيهات القادة والجنرالات، يورد ماسبيرو قول القائد العام رفيقو يقول ” هي بالرؤوس إلي، سدوا قنوات المياه المعطوبة، بواسطة أول بدوي تقع عليه أيديكم ” (10) أما الجنرال بيجو فيقول ” احرقوهم بالدخان مثل الثعالب ” ومثل هذه الأقوال والأفعال بعد قرن ونصف تتجدد على لسان جنرالات البانتاغون كارامسفيلد، الذي سمح وأمر في العراق وأفغانستان باستخدام برنامج ”عالي السرية ” خارج المؤسسات الدستورية يقدم الغطاء للسماح بقتل واسر واستنطاق مقصودين مهمين، ومن هنا جاءت فضائع التعذيب في سجن أبو غريب إذ كان الأمر الذي صادق عليه رامسفليد ونفده ستيفن كامبون هو ” معاملة السجناء العراقيين بقسوة عبر طرق غير تقليدية ” (11)
العمليات العسكرية الكبرى ،التي نفذتها القوات الفرنسية من اجل ( إقرار السلم) وهي عمليات تمشيط المناطق وتجميع السكان، وإنشاء المناطق المحرمة وإحراق القرى والمزارع، وتسليط القمع الجماعي بكل إشكاله وطوابير بيجو الجهنمية، وبالأخص عمليات الخنق بالدخان وتقتيل السكان المتمردين لمغارات، ( مغارة الظهرة 1200 قتيل ) كل هذا أعادت القوات الأمريكية تركيبه وإخراجه في عراق 2003 عبر التعذيب في المعتقلات، وعمليات المداهمات، وتدمير المنازل على سكانها، وعمليات التمشيط لتقتيل واعتقال المدنيين، مع استعمال الأسلحة الفتاكة طائرات سي 130 واف 16، والأسلحة المحرمة دوليا كالفسفور الأبيض في مدينة الفلوجة ،2004/2005 …ولا يمكن حصر ”جرائم ضد الإنسانية ” التي نفذها الفرنسيون والأمريكان في الجزائر والعراق على التوالي هنا، لان هناك عشرات المؤلفات توثق لهذه الجرائم بل لجرائم بذاتها ..
فضائح الاختلاس والنهب والسطو
دخلت القوات الفرنسية مدينة الجزائر في هرج ودون أي نظام أو ضبط، وأخذوا في القتل والسلب والنهب في أحياء متعددة من المدينة، واستولى الفرنسيون على الخزانة، وأعلنوا أنه لا توجد سجلات عن محتوياتها، ثم أبلغوا الحكومة في باريس أنهم وجدوا ما قيمته (48700000) فرنك من الذهب، وكان هذا المبلغ يكفي لتغطية نفقات الحملة التي وصلت إلى (43500000) فرنك ذهبي.
غالبا ما يصاحب الاحتلال أي احتلال غربي لدولة ذات ثروة، فوضى ونهب، واختلاسات بالجملة ،من قبل القادة الغزاة، فحين دخلت القوات الفرنسية للجزائر استولى القادة الكبار على ما يقدر من خزينة الجزائر الخمسين مليون فرنك يوم احتلوا العاصمة في 05/ يوليوا1830 وهي بالضبط 48.684.527 حسبما ذكر مولود قاسم نايت بلقاسم في كتابه الموسوم ” شخصية الجزائر وهيبتها الدولية ” نقلا عن المؤرخ غالبير(12)
وفضل الجنود البسطاء الكعكات الصغرى، وحصل ما حصل للسكان العرب والأتراك من نهب وانتشال، حتى صدقت مقولة سانت أرنو في إحدى رسائله إلى أهله بقوله ” ما الفائدة من هدم وكر للقراصنة من اجل وكر للصوص” في إحدى رسائله لعمه عام 1837 يقول ” من الصعب جدا تصور حجم الفوضى والإسراف والتبذير والخلل السائد في دواليب الإدارة هنا فكل واحد منشغل بتحقيق منافعه الذاتية، وكل شيء هنا عرضة للمتاجرة والاستغلال دون حياء، سواء في ذالك مصالح الوطن أو الجيش أو غيرها لا يوجد معمر واحد وإنما توجد جماعات من المفلسين قدموا من كل الأصقاع، سجناء هاربون من السجون مهربو بضائع، إنهم جنس شيطاني…” (13)، سانت أرنو هذا نفسه حررت الإدارة الفرنسية وهو في الجندية تقارير وطالبته سنة 1838 بمبلغ 147 فرنكا كأخطاء في حساب نفقات فيلقه أثناء الحملة، وطالبته بالتدقيق الحسابات في قضية غامضة تتعلق بعتاد للتخييم ضاع منه في قسنطينة .
حين سقطت قسنطينة 1838، يروي سانت أرنو المشهد التالي، ” في قصبة المدينة بدأت طوابير الجيش تصل تباعا، ولكن أعمال العنف بدأت أيضا، وصل الجنرال ريليير حوالى الظهر، وكان يصيح في وجوه الناهبين ويتوعدهم بالعقوبات الصارمة ولكن لا شيئ كان يثني الجندي عن أفعاله، لقد كان من الجنون التصدي له، كان الجندي أول من بدأ النهب ،ثم التحق بهم الضباط وعند إخلال قسنطينة تبين كالعادة إن أوفر الغنائم وأغلاها ثمنا قد آلت إلى قيادة الجيش وضباط الأركان وقد تم الاستيلاء على القصور والمنازل بعد أن غادر المدينة أثريائها” (14)
دكتور يدعى سيدييو، أورد شهادة أخرى يقول فيها ” كان الفرنسيون ينهبون متاع الناس ويسلبونهم من غير تمييز بين الشيوخ المسنين أو الأطفال عندما يستولون على احد المنازل فإنهم يدمغون بابه بجواز مرور ثم يحكمون غلقه، من الداخل ويختبئون داخل المنازل ويكسرون أقفال الصناديق ولا يتركون متاعا إلا ويفتشونه ثم يشرعون بهدوء تام في حمل ما يروق لهم فلقد وصل بهم الأمر إلى إقامة نوع خاص من الأسواق كانوا يبيعون فيها الأسلاب أو يتبادلون الغنائم” (15).
وبعد انقضاء سنة واحدة على معاهدة ” التافنا ” افتضحت قضية قذرة في مدينة بيربينيان، حيث كانت تجري وقائع محاكمة الجنرال بروسار قائد وهران فعندما حل بها بيجو قرر إنهاء مهام برسار في الجيش بتهمة الإخلال بأمانة الوظيفة، وكان جميع من في الجيش على علم بان بروسار كان يحفن من المال ملئ كفيه بفضل تجارة الأسلحة مع الأمير عبد القادر، ولكن لا احد كان يتصور ان هذه المسالة تتطور لحد انعقاد مجلس الحرب ولما استوجبت تداعيات القضية دعوة بيجو للإدلاء بشهادته وقع في الفخ بدوره، شن بروسار هجوما دفاعيا مضادا فأشار إلى وجود شروط سرية في معاهدة التافنا واتهم بيجو بتلقي الرشوة من عبد القادر بالدهشة، لقد أرغم بيجو على الاعتراف بعد أن حاصره محامي بروسار بأسئلة محرجة فعلا، توجد شروط سرية في المعاهدة، وان بيجو التزم فيها بتزويد عبد القادر بثلاث ألاف بندقية، وإبعاد خصمه القديم مصطفى إلى المنفى وقد طلب بيجو مقابل دالك 100.000 فرنك من الأمير، ولكن ليس لحسابه الخاص بل لفتح مسالك ريفية، في منطقة لادوروني الفرنسية ،هناك مبلغ اختفى على يد الجنرال بيجو قدره 86.000 فرنك ضمن الشروط السرية ،واعترف بدالك بيجو كما اعترف الجنرال بروسار قائلا ” لقد ارتكبت عملا غير نبيل وغير مجدي بمن هو في منصب القيادة”(16)
وتشبه هذه القصة في بعض جانبها ما فعله الحاكم الأمريكي وإدارته في العراق بول بريمر من اختلاسات أموال النفط، فالمطلع على الوثائق والدراسات والأبحاث الأمريكية والعالمية في موضوع اقتصاد العراقي في أعقاب الاحتلال الأمريكي (2003-2005) يصاب بالذهول لهول الاختلاسات التي حدثت للأموال الشعب العراقي ففي تحقيق نشرته صحيفة فاينانشيال تايمز في 09/12/2004 وترجمته مجلة المستقبل العربي، توصلا كاتبا التحقيق إلى أن ” 20 مليار دولار من الأموال العراقية تمثل مبيعات النفط العراقي في إطار برنامج ” النفط مقابل الغداء” قبل الاحتلال، هذه الأموال أنفقت بطرق فوضوية وعشوائية وكانت الأنظمة المحاسبية للمشروعات الممولة بهذه الأموال مرتجلة وغير مضبوطة ،مما ترك الأموال العراقية السائلة عرضة للنهب والاحتيال ،” وقدم نماذج لسوء استخدام هذه الأموال في شخص جيمس هافمان الذي كان يرأس وزارة الصحة في إدارة بريمر حيث كان يسيطر على مئات الملايين من الدولارات من الأموال العراقية السائلة وكان يمنح العقود بمحض سلطته الشخصية، ويتحايل على قواعد المشتريات، ولا يحتفظ بسجلات مناسبة واكتشف المحاسبون ان الشيكات كانت تذهب بصفة شخصية للسيد هافمان بدلا من المتعاقدين …أعيد نشر التحقيق الذي كتبه ستيفن فيدلر، وديميتري سيفاستوبولو للمجلة الأمريكية والذي حمل عنوان ” ما حدث لعشرين مليار دولار من الأموال العراقية؟ ” (17) واستمر الفساد واللصوصة عشرين عاما ولايزال، اذ فجر رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي قبل أيام فضيحة من العيار الثقيل حين صرح ان حجم الفساد ولاختلاسات وتحويل الاموال بلغ خلال عشرين عاما 600 مليار دولار من اموال العراق .. ( الشرق الاوسط 12/03 /2003)
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.