العقل البشري يقف في بعض الأحيان عاجزا أمام فهم بعض الأحداث الكبرى ولهولها فإنه لا يقتنع بالأسباب المطروحة أمامه فيلجأ من أجل ذلك إلى البحث عن تفسيرات أكبر تقترب من الخيال لكنها توافق الأهواء النفسية والثقافة الشعبية السائدة بيننا والتي لا تقبل بالتفسيرات المباشرة وتسعى دوما إلى البحث عن ما يفوق التصور .
وليس هناك أفضل من نظرية التآمر لتفسير بعض الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى وتحميل الآخر مسؤولية الوقوف وراءها مثلما هو الحال مع الثورات العربية الحالية التي أطاحت باثنين من أطغى الحكام العرب وتهدد ثالثا ، وتعد الحدث الأبرز في تاريخنا المعاصر منذ استقلال دولنا وعجز أنظمتنا السياسية عن بناء دول مؤسسات ، لذلك نجد من بيننا من لا يتقبل بأن هذه الثورات هي ثورات شعبية عفوية منطلقها ومنتهاها الشارع ، ويميلون بل ويجزمون بأنها بفعل فاعل وأن من فجرها هي قوى خارجية ، ويروجون بأن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية هم من خططوا للقيام بها من أجل تنفيذ أجندتهم في المنطقة ويجدون في مشروع كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة المعروف بالشرق الأوسط الجديد دليلا على صحة ما يعتقدون بأنها مؤامرة أمريكية صهيونية يجري تطبيقها في البلاد العربية ، وقد عرف هذه التفسير رواجا كبيرا بين الناس أو لدى بعضهم على الأقل لأن الثقافة السائدة بيننا تحبذ التبسيط ومقتنعة بأن الإنسان العربي لا قدرة له على فرض التغيير فما بالك بأن يقوم بثورات كبرى تطيح بأنظمة ظلت هذه الشعوب خانعة لها عقودا طويلة من الزمن.
المؤمنون بنظرية المؤامرة في تفسير الثورات العربية نوعان، الأول معذور ونتفهم وقع الصدمة على عقولهم ونفسيتهم وعجزهم عن استيعاب حجم التغيير الحاصل لأنهم لم يكونوا يعتقدون يوما أن ديكتاتورا مثل بن علي أو مبارك يمكن أن يسقط في بضعة أسابيع وبحركة شعبية لا تقودها أحزاب إيديولوجية ولا جماعات إسلامية متطرفة ودون استخدام للسلاح، أما أن يتم التغيير بهذه الكيفية وهذه السرعة فمن حقهم أن يصابوا بالدهشة والانبهار ويرفضون تقبل الأمر وهؤلاء علينا أن نمنحهم وقتا أطول كي يتأكدوا أن ما حصل هو فعلا ثورة شعبية عفوية حركها الظلم والفساد والاستبداد ، وأن تفسيرهم لما حصل بالمؤامرة إنما هو في حد ذاته من نتائج أنظمة الاستبداد التي جعلتهم لا يؤمنون بإمكانية أن يثور الإنسان العربي يوما وينتفض ضد الظلم ، وسوف يستوعبون ما حصل بعد فترة عندما تهدأ الأوضاع تماما.
النوع الثاني من الذين يؤمنون بأن الثورات العربية هي نتيجة مؤامرة أمريكية صهيونية على رأي الرئيس اليميني علي عبد الله صالح -الذي عمر لأزيد من ثلاثين عاما في الحكم -هم من الذين يخشون أن تمتد إلى هذه تلابيبهم الثورات ويخوفون الناس بالسياسة الأمريكية التي تعد هذه الأنظمة أشد خدامها وظلت كذلك لسنوات طوال تنفذ ما يطلب منها أمريكيا وصهيونيا ، وهؤلاء يعلمون حجم الرفض والمعارضة الموجودة في الشارع ضد السياسة الأمريكية ، ويرون بأنه ليس هناك من وسيلة لقتل روح الثورة الجديدة في نفوس العرب سوى القول بأن الثورة ضد الفساد والاستبداد هي مخطط غربي رغم أن العكس هو الصحيح، فالاستبداد والفساد هو من خدم المخططات الغربية في الوطن العربي لأنه غيب إرادة الشعوب في التعبير عن مواقفها وأرائها تجاه القضايا الكبرى زمنا طويلا ووفتح أبواب التطبيع الشامل مع الصهيونية دون موافقة الشعوب، مثلما انخرطت هذه الأنظمة في حرب شاملة ضد القضايا العربية وحولت الإنسان العربي إلى كائن لا هم له سوى اللهث وراء المأكل والمشرب.
يجب أن نقول في النهاية أن الحراك التاريخي المطالب بالتغيير في البلاد العربية فاجأ حتى الغرب نفسه الذي لا ننكر أنه يحاول ركوب الموجه واستغلال انتفاضة الشعوب كي لا يضيع مصالحه -هذه هي قوانين العلاقات الدولية – حيث لا المخابرات الأمريكية ولا الأوربية تنبأت بحجم ما حدث في مصر وتونس ، ويكفي القول بأن خلافا دب بين المسؤولين السياسيين والاستخبارات في الإدارة الأمريكية بسبب ذلك ، بل إن ميشال أليو ماري وزير الدفاع الفرنسية التي استقالت بسب سوء تقديرها لثورة تونس حيث عرضت علنا على زين العابدين بن علي ساعات قبل سقوطه مساعدات فرنسية في قمع المظاهرات.
merouane07@yahoo.fr
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.
تعليق 1802
يا صديقي…اذا رأيت نتاج ما أسميته يا استاذ مروان ثورات في تونس وفي مصر وليبيا أن الثورة لا يمكنها أن تنجب “مسخا”…فقليلا من احترام العقل بدلا من الحجر عليه فالعبرة بالنتائج والنتيجة تقول”دعوها فانها مأمورة”…ولو عدت يا صديقي لوثائق البنتاغون المنشورة ، وليست السرية، ومن عهد كوندليزا رايس لأطلعت على ورقة عمل حددت ما تسميه الآن سيادتك ثورة ، بمجال زمني من 1998 إلى 2015…ورقة عمل تشرح كيف يجب أن يعاد تشكيل القارة العذراء نفطيا وفق ما يسمى نظرية “الفوضى الخلاقة”..وشعار ورقة العمل تلك..تسيير الشعوب بدلا من تسيير الحكام…
يا حبيبي…القضية ليست ببساطة طيبتك ولا ببساطة احلامنا في أن ينزاح من على ظهرينا هؤلاء الجبابرة..ولكنها ببساطة انهم فهمونا فداعبوا مشاعر الوهم والوهن فينا..تحياتي
تعليق 1807
السيد اسامة إذا كانت امريكا تريد لنا تغيير واقنا بايدينا فلتحيا امريكاو كونداليزا و من جاورها في الفوضى الخلاقة
تعليق 1830
أشكرك أخي مروان على على هذا الرأي الشجاع في زمن كثر فيه المتآمرين على التآمر و التآمر منهم براء
تعليق 1817
اخي الكريم
الغرب الرسمي دخل مرحلة التهاوي والزوال ، بفعل جبروته وتسلطه ، واللاعقلانيته ، شعوبنا تنتفض ، وتريد ارجاع الأمور الى عهدها الفاعل ، لأنها تقف فوق ارث حضاري ، قيمه انسانية ، ورسالته عالمية ، ارث كهذا ان نحن بعثناه الى الوجود ، سيقلب الموازين ، ويقود العالم من جديد نحو العدل والتسامح والروح الانسانية ، ويبعد عنه شبح الدمار النووي الذي يجثم على رؤوس البشرية باطنان وان المفاعل النووي اليباني يحدث الهلع في نفوس الكثيرين ، فكيف لهذا الغرب الرسمي نسمح له بقيادتنا من جديد ، والتآمر علينا مرة أخرى .
لاتقنط من ملاحظات الاخوة ، فان فعل الهزيمة والاحباط لازال جاثما على العقول والنفوس ، ويحجب الرؤى عن الكثير.
شكرا على مقالك الهادف .
محمد دحمون – البيض -الجزائر
تعليق 1848
أصبت مكن الداء يا صديقي مروان,,العقل العربي في غيبوبة حتى أنه لم يعد قاردا على فهم حركية التاريخ فيلجأ غلى تفسير الأحداث التي حوله بالغيبيات الأميركية و الإسرائيلية أحيانا,,يكاد البعض أن يقع في تاليه اميركا و هي التي بهدلت في العراق و أثخنت جراحا في أفغانستان و فشلت في تفادي إعتداءات الحادي عشر من سبتمبر و كادت الأزمة العالية ان تفلسها,,إنه البؤس الفكري يا صديقي