تبعد البرتغال، وهي الإمبراطورية العالمية القديمة عن فلسطين آلاف الأميال، والتي كان لها فضل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، واكتشاف الأمريكتين، وهي رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها إلا أنها تعتز بتاريخها وحضارتها ولغتها التي مازالت سائدة في أكثر من مكانٍ من العالم..
ومازالت البرتغال تحتفظ بآثارٍ كبيرةٍ تعود إلى الحضارة العربية الإسلامية، وتعترف بفضل العرب والمسلمين في تنوير ونهضة القارة الأوروبية، وترى أن العلاقة مع العالم العربي يجب أن يسودها الدفء والتفاهم والتعاون، فهم الجار الأقدم والأقرب إلى أوروبا، ولكنها رغم بعدها عن فلسطين وعن مركز الصراع في الشرق الأوسط، وعدم انخراطها في الأحداث الكبرى التي تجري في المنطقة العربية، ورغم انتماءها إلى أوروبا حضارةً واقتصاداً وسياسية، إلا أنها تشعر بالمسؤولية الدولية الكبيرة الملقاة على عاتق المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وتعتقد بأن المجتمع الدولي ملزمٌ بإيجاد حلٍ للقضية الفلسطينية، على أن يكون حلاً منصفاً ومرضياً للفلسطينيين، ومحققاً لآمالهم وطموحاتهم، وأن يطال أسباب الأزمة وجوانب علاجها الشافي، وأن يضع حداً حقيقياً لمعاناتهم واستمرار نضالهم ومقاومتهم، ويعولون على دورٍ أوروبي أكثر فعالية وتفهماً فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، يكونون فيه شركاء مع غيرهم من دول القارة الأوروبية.
يدرك البرتغاليون حقيقة الأزمة التي يعيشها الفلسطينيون، ويأسفون لما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ظلمٍ واضطهادٍ على أيدي الجيش الإسرائيلي، ويرون أن إسرائيل قد تمادت في استخدام القوة المفرطة في عملياتها العسكرية ضد السكان في قطاع غزة، وفي مدن الضفة الغربية، وأنها تسببت في قتل المئات من المدنيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، ويقولون أنه لم يعد بمقدورنا الدفاع عن سياستها، ولا تبرئة قيادتها من الجرائم التي ارتكبتها، ذلك أن إسرائيل قد شوهت صورتها بنفسها، وأساءت كثيراً إلى حلفاءها، ودفعتهم لمعارضتها، والوقوف ضدها، فالصورة التي نقلتها وسائل الإعلام عن ممارسات الجيش الإسرائيلي كانت كفيلة بتغيير الرأي العام لدى المجتمع الدولي كله، ولهذا يؤيد البرتغاليون محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، الذين يثبت التحقيق المستقل أنهم كانوا وراء إصدار الأوامر بإطلاق النار على الفلسطينيين العزل، ويرون أن تقرير غولدستون كان يكفي وحده لإدانة إسرائيل وتجريم جيشها.
ويرى البرتغاليون أن إسرائيل أضاعت الكثير من الفرص التي كانت مواتية في ظل حياة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وأنها لم تكن جادة في عملية السلام مع الفلسطينين، فقد أضاعت الفرصة التاريخية التي بدأها الزعيم الفلسطيني ، وكانت على العكس من ذلك، حيث شاركت في إضعاف قوة ونفوذ عرفات أمام شعبه، ودمرت سلطته الوطنية وأحرجته أمام شركائه، ولا يستبعد الكثير من البرتغاليين أن تكون إسرائيل قد تورطت في جريمة إغتيال الرئيس أبو عمار، ويقولون بأنها إن لم تكن قد شاركت بالفعل في قتله، فقد قتلت مشروعه الذي غامر من أجله، ودفع بشعبه لقبوله، وقد كان لأوروبا اسهاماتٌ كبيرة في انطلاقه وتأسيسه، ولكن إسرائيل أجهضت المشروع، ودمرت البنى والمؤسسات التي قام عليها، وقتلت كل أملٍ باستعادة عملية السلام لبريقها، ومازالت الحكومات الإسرائيلية ماضية على نفس النهج، فلم تتوقف عن إضعاف رجالات السلطة الفلسطينية، وإحراج رئيسها ورئيس حكومتها، وتدمير مؤسساتها، فضلاً عن قيامها بقتل الفلسطينيين، واعتقال المئات منهم، والاحتفاظ بالآلاف في سجونها، رغم أن إتفاقية أوسلو التي كانت البرتغال ضمن انتماءها الأوروبي شريكةً فيها، تضمن توقف الاعتقالات الإسرائيلية، وامتناعها عن أعمال القتل والتضييق والملاحقة ضد الفلسطينيين، وتلزمها بأن تمنح الفلسطينيين الفرصة لإدارة شؤونهم بأنفسهم، وتطوير قدراتهم ومؤسساتهم، لتكون قادرة على العمل بمفردها، ولكنهم يرون أن إسرائيل تريد أن تأخذ من الفلسطينيين كل شئ دون أن تمنحهم بالمقابل بعض حقوقهم المعترف بها، ومنها ضرورة الإفراج عن المعتقلين والسجناء لديها، وعدم الاعتداء على أرضهم وممتلكاتهم وحياتهم الخاصة.
ويعيب البرتغاليون على الفلسطينيين إنقسامهم واختلافهم، ويرون أنهم يساعدون إسرائيل في تمرير برامجها، وإقناع حلفائها بأن الفلسطينيين غير مؤهلين لأن تكون لهم دولة، وأنهم غير جاهزين لأن يكونوا شركاء في المجتمع الدولي، وأنهم يشكلون خطراً على أنفسهم وعلى دول الجوار، ويقولون بأن الفلسطينيين هم الذين يعطون إسرائيل هذه الذريعة، ويرون أن على الفلسطينيين أن يتفقوا في مواقفهم، وأن يوحدوا جهودهم ومؤسساتهم، وألا ينشغلوا بمشاكلهم عن قضيتهم الأساسية، وينبغي أن تكون لهم حكومة واحدةً، ورأيٌ موحد، وناطق باسمهم يعبر عنهم، فهذا من شأنه أن يساعد دول الإتحاد الأوروبي على تنظيم تقديم المعونات والمساعدات إلى الفلسطينيين وسلطتهم، إذ يرون أن الحصار المفروض على سكان قطاع غزة غير إنساني، ويخالف القوانين الدولية، وينبغي على الحكومة الإسرائيلية إزالته، وفتح جميع المعابر الإنسانية التي يحتاجها سكان قطاع غزة لمواصلة حياتهم الطبيعية، ويدينون اعتداء إسرائيل على قوافل الإغاثة الدولية الإنسانية، ويستنكرون عمليات القتل التي طالت بعض أعضاء قوافل المساعدات الدولية.
وفي الوقت الذي يرى فيه البرتغاليون أن على المجتمع الدولي أن يحترم نتائج الانتخابات الديمقراطية الفلسطينية، وأن يقبل بحركة حماس في رئاسة الحكومة الفلسطينية، وأن يمنحها الفرصة لتظهر قدراتها في إدارة الحياة السياسية الفلسطينية، ويرون أنه ليس من العدل والإنصاف معاقبة الشعب الفلسطيني على خياراته الديمقراطية، فإنهم يرون ضرورة أن تجيب حماس على الكثير من التساؤلات الدولية، وأن تبين رأيها في الاتفاقيات الدولية الموقعة مع إسرائيل، وموقفها من استمرار العمل العسكري ضد الإسرائيليين، وقرارها بشأن الاعتراف بإسرائيل، ومدى جاهزيتها للتعاون مع رئاسة السلطة الفلسطينية في مواصلة المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، وموقفها من استمرار أسر الجندي الإسرائيلي جيلعاد شاليط، ومدى استعدادها لوقف عمليات تنفيذ أحكام الإعدام التي أصدرتها محاكم غزة ضد بعض المشتبه في تعاملهم إسرائيل، واحترامها لحقوق الإنسان، وحق المواطنين في حرية التعبير عن أراءهم.
تلك هي بعض وجهات النظر البرتغالية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وإن كنت لا أتفق معهم في كثيرٍ منها، ولا أوافق بحالٍ على ما يطالبون به الشعب الفلسطيني وفصائله، ولا أقبل بمساواتهم لنا مع الكيان الإسرائيلي، وعدم تمييزهم بين المقاومة المشروعة والإرهاب المرفوض، أو تسطيحهم للخلافات الفلسطينية الداخلية، وعدم فهمهم لأصولها وأسبابها، ولكنها تبقى وجهات نظرٍ محترمة ومقدرة، ينبغي الإستفادة منها والبناء عليها، ففيها اقترابٌ كبير من الهموم الفلسطينية، وتفهمٌ واضح لمظلومية الشعب الفلسطيني، مع التأكيد أن البرتغال جزءٌ من أوروبا، وهي ليست جزءاً من عالمنا العربي والإسلامي، ولهذا ينبغي عدم الإستهانة بالرأي العام الشعبي الأوروبي، فهو يساهم بشكلٍ أو بآخر في مساندة القضية الفلسطينية، ويمنع الاستفراد الإسرائيلي بالرأي العام الغربي، ويشكل للفلسطينيين قاعدة فهم مشتركة يمكن البناء عليها.
لشبونة في 28/4/2011
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.